وجّه الملك محمد السادس رسالة بتاريخ 5 يناير 2018 إلى كل من وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيس المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف، تتضمن توجيهات بشأن مواصلة إصلاح الأوقاف العامة. وتأتي هذه الرسالة بعد سلسلة من الإجراءات كان أبرزها إصدار مدونة الأوقاف، وإقامة المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة..
وأراد الملك من المسؤولين عن الأوقاف أن يُعِدّوا “إستراتيجية على المدى الطويل”، يكون هدفها الأساس تحديث أساليب تسيير الوقف بالمغرب، من أجل إدماجه في النسيج الاقتصادي العام، وبالتالي جعله يقوم بأدوار اجتماعية وتضامنية..
نعتقد أنه لن يكون إعداد هذا المشروع في المستوى المتوخى منه إذا لم يُبادر المعنيون بالأمر، بداية، إلى تسطير الأسئلة التالية:
ما هو المنهج، الذي ينبغي اعتماده، لإعداد مشروع الإصلاح؟
من هم المؤهلون لوضع الإستراتيجية المطلوبة؟
على أية مرجعية يتم إعداد المشروع؟
ما هي حدود الإصلاح في موضوع الأوقاف؟
دون وضع خارطة طريق أولية وواضحة يتم السير على ضوئها لإعداد مشروع إصلاح الأوقاف، سينتج عن ذلك إعادة إنتاج ما هو كائن وإخراجه بحلة جديدة أو بإخراج بديل، لن يزيد إلا من استفحال مشكل “الأحباس” ومراكمة المشاكل العالقة بها..
إن إعداد أي مشروع كيفما كانت طبيعته يقتضي إحداث إصلاح أولا في الآلة التي ستُخرج هذا المنتوج إلى الوجود، وكلما كانت المقدمات صحيحة تكون النتائج أصحّ.. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار الأهداف العامة التي أكد عليها ملك البلاد في رسالته الأخيرة إلى المعنيين بإصلاح الأوقاف، والتي تضمنت توجيهات وإرشادات محددة لا بد من مراعاتها واستحضارها في مرحلة الإعداد وأيضا مرحلة التنفيذ.
ما هي أولا توجيهات الملك في هذا الباب؟
هذه التوجيهات حسب ما جاء في رسالة الملك هي:
• تحديث أساليب تسيير الأوقاف العام.
• الأخذ بعين الاعتبار الإكراهات الملزمة والفرص المتاحة على حد سواء.
• أن يكون المشروع مفصلا بما فيه الكفاية من حيث الأهداف المتوخى بلوغها، والوسائل المسخرة، ونوعية الأداء المنشود.
• تحديد جدول زمني دقيق لتنفيذ مشروع الإصلاح.
• أن تعتمد هذه الإستراتيجية، ضمن أولوياتها، على الجرد النهائي لمجمل الأملاك الوقفية العامة.
• تسطير التدابير الواجب اتخاذها للحفاظ على الأوقاف، سواء على المستوى القانوني أو المادي.
• ارتكاز هذه الإستراتيجية على سياسة طموحة وواقعية، لاستثمار وتثمين رصيد الأوقاف العامة، مع الحرص على أن تكون كل المشاريع لصالحها.
إذن بناء على هذه التوجيهات الملكية ينبغي على المعنيين بالأمر أن يحددوا أولا المنهجية التي على ضوئها سيتم إعداد مشروع الإصلاح داخل سقف زمني محدد. وفي نظرنا لإنجاح هذه المرحلة الأولية، ولرفع هذا التحدي الزمني، نقترح أن ترتكز منهجية الإعداد على المعالم التالية:
أولا: اختيار اللجنة المكلفة بإعداد مشروع إصلاح الأوقاف:
إن الخطوة الأولى في مرحلة إعداد إستراتيجية الإصلاح هي اختيار لجنة مؤهلة مكلفة بالنظر في هذا المشروع وإعداده وفق التوجيهات الملكية السامية. ولا جدوى من تكوينها فقط من الأطر المتخصصة أو الكوادر التقنية المتوفرة بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أو المجلس العلمي الأعلى أو الدوائر المحيطة بهما، لأن الاقتصار على ذلك في هذه الحالة سيجعل منها لجنة منغلقة على ذاتها، ولن تنتج إلا ما يوجد بين يديها من أوراق أو تصورات جاهزة، وفي جميع الحالات ستكون في نظرنا الإستراتيجية المنبثقة عنها ناقصة من حيث الإعداد وقوة الاقتراح.
لهذا، فمن المستحسن الانفتاح على طاقات علمية من خارج الوزارة والأجهزة التابعة لها، وان يتم تشكيل لجنة إعداد مشروع إصلاح الأوقاف كما أراده ملك البلاد وفق الخطة التالية:
1 ـ اختيار أفضل الأطر العاملة في مديرية الأوقاف والتي كونت تجربة طويلة في مجال تسيير وإدارة هذا القطاع الهام. والانتقاء هنا ينبغي أن ينهض على مبدأ الكفاءة والأمانة معا..
2 ـ اختيار أفضل الأطر في وزارة الأوقاف التي لها مؤهل علمي وأكاديمي في مجال دراسة الأوقاف، أو التي اشتغلت على مستوى التنظير في هذا المجال. نتحدث هنا عن المؤهل العلمي..
3 ـ اختيار أبرز علماء المجلس العلمي الأعلى الذين لهم دراية بمجال الأوقاف أو سبق أن تخصصوا فيه أو كتبوا عنه، أو عرفوا بأن لهم تصورا حول إصلاحه أو تطويره..
4 ـ اختيار أفضل الأساتذة أو الباحثين في مختلف الجامعات المغربية، من خارج وزارة الأوقاف أو المجلس العلمي، والذين لهم باع طويل في التنظير والكتابة في الأوقاف أو تطويرها، أو ممن لهم نظريات معينة في هذا الشأن، ولو كانوا من مشارب إيديولوجية مختلفة. لا يهمنا في هذا المجال الانتماءات العقدية أو السياسية للمشاركين في اللجنة المكلفة بإعداد المشروع، بقدر ما يهمنا التوصل إلى الاستفادة من أفضل ما يوجد في الساحة من طاقات علمية متخصصة. فتطوير قطاع الأوقاف كما عبر عن ذلك ملك البلاد يقتضي تضافر جهود الجميع والانفتاح على كل الحساسيات المؤهلة للخوض في هذا الموضوع وإخراجه من “الظلمات” إلى “النور”..
5 ـ إشراك متخصصين في القانون الخاص من أساتذة جامعيين، بالإضافة إلى المحامين والقضاة، لأن هناك مشاكل كثيرة تعترض العقارات والأموال المحبّسة، يكون سببها المنازعة القضائية، وهي تحتاج إلى رأي ذوي الخبرة من أجل وضع آليات وإيجاد صيغ متوافق عليها لإنهاء الملفات العالقة أمام المحاكم والتسريع في تنفيذها.. فالتقاضي وبطء الإجراءات والمساطر المتعلقة بالأملاك المحبسة يقف حجر عثرة أمام تحديث هذا القطاع وتطويره..
6 ـ يتوجب على اللجنة المكلفة بإعداد الإستراتيجية أن تستشير فعاليات متخصصة من خارج المغرب، سواء على المستوى الأكاديمي، أو على مستوى الأطر الحكومية التي راكمت تجربة في إدارة وتسيير وتنمية الأوقاف، خصوصا من البلدان العربية الشقيقة.
ويستحسن تقديم الدعوة إليها وأخذ رأيها في بعض المواضيع المطروحة للنقاش، وفي هذا المجال ينصح بالاطلاع على التجربة الخليجية في نطاق تحديث الأوقاف وتنميتها. ولا بأس من الاطلاع على الاجتهادات التي توصلت إليها هذه الدول في تطوير الوقف وجعله في خدمة بعض متطلبات الحياة..
7 ـ يتطلب تشكيل اللجنة أيضا إشراك بعض رجال الأعمال والمستثمرين الناجحين في المغرب، أو من بلدان صديقة، والاطلاع على تجاربهم الخاصة، والاستماع إلى آرائهم وأخذها بعين الاعتبار، لأن الملك محمد السادس أكد في توجيهاته لوزير الأوقاف ومن معه أن يأخذوا بعين الاعتبار مسألة استثمار الأوقاف وإدماجه في التنمية الاجتماعية، بل إنه اشترط أن تكون استثمارات الأوقاف ناجحة في جميع الحالات. وقد قال الملك: “وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن ترتكز هذه الاستراتيجية على سياسة طموحة وواقعية، لاستثمار وتثمين رصيد الأوقاف العامة، مع الحرص على أن تكون كل المشاريع لصالحها”. ولا يمكن أن تتم بلورة مثل هذه استراتيجيات الإصلاح دون الاستناد إلى قانون الأعمال والاستثمارات والاستفادة من رجال الأعمال والمستثمرين ومن لهم إلمام ودراية بتنمية الرساميل والمشاريع الاقتصادية الكبرى..
8 ـ ينبغي أن تتشكل اللجنة المكلفة بإعداد مشروع إصلاح الأوقاف من بعض أصحاب الوقف أنفسهم أو “المحبِّسين” الفضلاء، أو أبنائهم، أو أحفادهم، فهم من يتصدقون بأموالهم لفائدة الغير، ولا بد من أخذ رأيهم في هذا المجال، وإشراكهم في إعداد هذه الإستراتيجية.
ولا بأس أيضا من الاطلاع على تجارب “المحبسين” من بلدان شقيقة، فهناك أمثلة ناجحة في بلد مثل الكويت أو غيره، وقد اشتهر “محبسون” في هذا البلد حيث “أوقفوا” ثروات هائلة لفائدة الغير،وربما أبدعوا في صرف عائدات الأوقاف في مجالات عديدة..
ثانيا: الاستناد إلى الدراسات العلمية في إعداد المشروع:
إن أي إصلاح كيفما كان شأنه ينبغي أن يتأسس على وجود دراسات علمية دقيقة لموضوع الإصلاح المطلوب، الذي هو في حالتنا هذه الأوقاف العام بالمغرب. وعلى المعنيين بالأمر أن يخرجوا إلى الوجود كل الدراسات أو التقارير “المأرشفة”، التي ترصد المشاكل الكبرى للأوقاف، والعراقيل المادية والمعنوية المتكلّسة طيلة عقود أو قرون والمستنزفة لهذه الطاقة المالية والمكبّلة لكل جهود الإصلاح والتقويم.
ويستحسن أيضا الوقوف عند كل التوصيات والملاحظات الواردة بهذه التقارير والدراسات وتمحيصها وإعادة ترتيبها، لأن المنطق يقتضي أن تكون مديرية الأوقاف، وطيلة عقود من تسييرها لهذا القطاع، قد توفرت على رصيد هائل من التقارير والمعلومات والمعطيات والتوصيات والتوجيهات.. إذن المهمة الأولى في إعداد الإستراتيجية التي طلبها الملك هي الانطلاق من أرضية علمية صلبة مبنية على معطيات دقيقة، ولن يتأتى هذا دون الاعتماد على الأرشيف المتوفر، وانتقائه بذكاء، وتحليله بعناية فائقة.
فأي إصلاح لا يستند على أرضية تقييمية لما تم تنفيذه من أعمال سابقة، وتحديد المشكلات المزمنة التي صاحبت عمليات تسيير الأوقاف، فلن يكون هذا الإصلاح في المستوى المطلوب، ولن تحقق الأهداف المسطرة في الرسالة الملكية.
ومن أجل مراجعة الأرشيف وغربلته ، يتوجب اختيار لجنة متخصصة لهذا الغرض تعكف على مراجعة الدراسات والتقارير المتضمنة في أرشيف مديرية الأوقاف، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من توصيات أو توجيهات، وإعادة صياغتها كورقة من الأوراق التي سيرتكز عليها معدو الإستراتيجية. مع التأكيد أن لجنة مراجعة أرشيف الأوقاف ينبغي أن يراعى في تشكيلها وجود عناصر متخصصة من خارج إدارة الأوقاف إلى جانب الكادر المؤهل من داخلها بطبيعة الحال.
ثالثا: تنظيم أيام دراسية:
نرى أنه من اللازم توسيع النقاش في مسألة إصلاح الأوقاف بالمغرب. وعليه يستحسن أن تسهر وزارة الأوقاف على تنظيم أيام دراسية مفتوحة أمام الجميع، يُستدعى إليها باحثون متخصصون، لمناقشة مواضيع محددة، تحتاج اللجنة المذكورة إلى تعميق البحث فيها، أو تسليط الضوء على بعض جوانبها.
وعلى إثر هذه اللقاءات يتم صياغة تقارير مكتوبة تتضمن أهم التوصيات أو الملاحظات المستخلصة، على أساس أن تشكل أوراقا تضاف إلى ما في حوزة وزارة الأوقاف من دراسات أو غيرها.. وهي مادة علمية إضافية يمكن الاستئناس بها، وبلوة مشروع الإصلاح على ضوئها..
رابعا: إشراك مراكز الأبحاث والدراسات:
يمكن أيضا للمعنيين بالأمر إشراك مراكز الأبحاث والدراسات التي لها علاقة بالموضوع أو قريبة منه، وذلك بتكليفها بإعداد أبحاث محددة، أو معالجة مواضيع بعينها، حتى تتمكن اللجنة المكلفة بإعداد المشروع من الإحاطة بكل القضايا والمشاكل المتعلقة بالأوقاف العام بالمغرب..
الخلاصة:
كلما تم توسيع مجال التدخل والمشاركة في مشروع الإصلاح الذي يتوخاه أمير المومنين من مسألة الأوقاف بالمغرب، كان هذا المشروع متكاملا وشاملا ومتوافقا عليه وأقرب إلى الواقع وإلى التنفيذ. وكلما انغلق المعنيون بالأمر على ذواتهم ومحيطهم المألوف عندهم، ضاق الأفق وتقلصت فرص النجاح..
ينبغي الإشارة إلى أن مشروع إصلاح الأوقاف لا يعني مسؤولي الأوقاف فحسب، بل هو يهم كل فئات المجتمع، ويدخل في إطار ما هو عام وشامل.. فأموال الأوقاف هي أموال الشعب وينبغي أن تعود بالفائدة على أبناء الوطن.. وأما المسؤولون فهم فقط أوصياء ووكلاء على هذه الأموال، وهم محاسبون على حسن تدبيرها وصرفها.. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار بعض معالم الإصلاح المطلوبة لإدماج هذا القطاع الهام في الدورة الاقتصادية والتنموية للبلاد وبالتحديد في المشروع التنموي الجديد..
في نظرنا لن يتم تنمية هذا القطاع دون تحديثه بالكامل وإدماجه الشامل في الدورة الاقتصادية للبلاد وتسييره بناء على التقنيات الحديثة، واستثماره في كل القطاعات المربحة بدون استثناء. وتلك هي رغبة الملك التي عبّر عنها بوضوح في رسالته الأخيرة الموجهة إلى وزير الأوقاف والمجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف..
أعده الاستاذ سعيد الراشيدي لفائدة “دين بريس”
المصدر : https://dinpresse.net/?p=5714