محمد زاوي
لا تكاد تقرأ كتابا لعبد الله العروي إلا تجد فيه إشارة إلى الماركسية، أو تحليلا من وحي منهجها، أو دفاعا عنها بوضوح كما هو الحال في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” و”العرب والفكر التاريخي” و”مفهوم الإيديولوجيا”.
إنه خط متفرّد في الماركسية، يعتمدها دون أن يذوب في أفقها الإيديولوجي، ودون أن يبقى حبيس حدودها النظرية والفلسفية. يتبناها كمنهج ل”اختصار الزمن” -بتعبير ياسين الحافظ في “التجربة الفيتنامية”- في الوعي والممارسة، لا كبرنامج وطوبى شيوعيين.
يعود العروي إلى هيجل.. ماركسية هيجلية، ماركسية تحاول فهم التأخر التاريخي وتداركه، ماركسية لا تصطنع قطيعة بين ماركس والإيديولوجيا الألمانية (كما يفعل لويس ألتوسير).. ماركسية لا تعزل “العالم الثالث” عن باقي العالم، تبحث عن إمكان لتدارك تأخره، تلتمس طريقا جدليا للخروج من واقع متأخر إلى آخر متقدم (حيث يبقى التأخر في التقدم، وحيث يخرج هذا من رحم ذاك).. ماركسية ذات ميل قومي أكثر منه طبقي، كل همها طي التفاوت بين مجتمعاتها وبين المجتمع الغربي. (عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ص 154-157)
يرفض العروي ماركسية “المادية التاريخية المبتذلة”، أي تلك التي ترى في ماركس العالِم الذي يدرس نمط الإنتاج الرأسمالي. يدعو إلى ماركسية شاملة، تهتم ب”الإيديولوجيا الألمانية” كما تهتم ب”رأس المال”. فيقول: “والنظرة الشاملة إلى الإنتاج الفكري الماركسي هي نظرة مثقف العالم الثالث لأن وضعيته ترغمه على بعث ماركس الأول القريب من التاريخانية الألمانية” (نفس المرجع، ص 160).
لا يهتم العروي كمثقف عالم-ثالثي “بتحليل النظام الرأسمالي إلا في نطاق السؤال الأصلي: كيف يتطور مجتمع غير رأسمالي وغير صناعي في عالم تحكمه الرأسمالية والصناعة” (نفس المرجع، ص 161).
إنه “تأويل تاريخاني” للماركسية، لا يؤمن بحتمية “الفوارق الموجودة بين العالم الغربي والعالم الثالث”، نقيض صريح ل”تأويل ليبرالي” للماركسية “ينتهي بسياسة تاريخانية محافظة” تقول بحتمية التفاوت بيننا وبين الغرب (نفس المرجع، ص 170).
إذن، ماركسية ع. العروي: ماركسية العالم الثالث، ماركسية تاريخانية.. غايتها تقليص الهوة بين العالم الثالث والعالم الغربي، غايتها تحرير دول هذا العالم من معيقات التقدم والمنافسة .. هذه الماركسية ليست وضعانية من باب أولى، ولا هي ليبرالية من باب أولى (1).. إنها ماركسية تفسر تطور التاريخ، ترجعه لقواعده العامة، تؤمن بحتمية تقدمه، وتسعى لاختصاره باتجاه هذا التقدم.. ما علاقة هذه الماركسية ب”الماركسية الموضوعية” التي دعا إليها العروي في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”؟
“الماركسية الموضوعية” كما يقترحها عبد الله العروي لا تختص بمعنى إضافي كبير، كما لا تستقل بمعنى مغاير، عما وصف به “الماركسية التاريخانية”؛ إلا أن الأولى -أي “الماركسية الموضوعية”- تهتم أكثر بتحديد المنهج الذي تتأسس عليه “ماركسية تبحث في التاريخ وتفسر تفاوته تمهيدا للتجاوز”، ومفاد هذا المنهج “تجريد الماركسية من المقولات الإيديولوجية المرتبطة بسياق أوروبي خاص وإعمال تحليلها في الواقع العربي بغرض فهمه وفهم علاقته بمحيطه فهما ملموسا”.
إذن، “الماركسية الموضوعية” مدخل وأساس منهجي “للماركسية التاريخانية”، يُضمرها الفاعل في تدبير المصالح لكنه لا يعيها فتضعف نجاعته. إنها كامنة في عقل “مهندس الدولة القومية”، ويجب أن تستحيل “واعية”. هكذا يتحدث عبد الله العروي في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”. (عبد الله العري، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، 2011، ص 169-188)
هذا التركيب في “الماركسية الموضوعية” هو ما يجعلها “عصية عن القراءة لا عن الإدراك والوعي” يقول عبد الله العروي. إنها ماركسية “ماركس الليبرالي” لا ماركسية “ماركس الشيوعي”، ماركسية “الإيديولوجيا الألمانية” لا ماركسية “البيان الشيوعي”. ماركسية تعي التفاوت في أفق تحاوزه، تحدد بدقة وتاريخية أسباب التأخر وتضع برنامجا واقعيا ملموسا لتجاوزها. إنها بتعبير عبد الله العروي ماركسية “الجزء الخاضع لسلطة الغير ويكد للانفلات من وضعه التعيس”.
ولما كانت “الماركسية أفق كل عصر” بتعبير جون بول سارتر، فقد كانت أفق الروس في ماركسية ماركس، وأفق الصينيين في ماركسية الروس، كما ينبغي ويمكن أن تكون أفقا لنا في ماركسية الصينيين. إنها “أفق كل داعية للإصلاح” في الوطن العربي، أي “الأفق النظري لتصوراته المبهمة، غير الواعية بذاتها” (عبد الله العروي، الفلسفة والتاريخ، المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى، 2023، ص 124ـ125-127). ومعلوم أن شرط التقدم فك الإبهام التصوري والوعي الملموس بالواقع الملموس، وهذا تكلفه “الماركسية الموضوعية”، أو تعتبر المنهج الأكثر نجاعة في كتابته على أقل تقدير.
وقد كان العروي واضحا في تبنيه للماركسية كاختيار نظري، بقوله: “مذاهب كثيرة تبرر هذا الجانب أو ذاك من السياسة الإصلاحية، لكن لا مذهب يبررها، ككل منتظم، تبريرا صريحا كالماركسية التي تختزل سائر المذاهب وتكون كالظل الممدود لكل مشاريع الدولة القومية” (نفس المرجع، ص 128).
وقد اختصر العروي هذا البناء في “كتاب التسعين” (كارني كوفيد)، ضمن ردّ على أولئك الذين لا يفهمون إحالته على الماركسية بعد سقوط جدار برلين. وقد كان ردّه كافيا لمعرفة وجهة نظره في “إعمال الماركسية”، لاستيعاب ما قاله عن “الماركسية التاريخانية” و”الماركسية الموضوعية”.
إنها في نظره -أي الماركسية- منهج واقعي نقدي تغييري يحول من جهة دون الوقوع في مناهج واقعية محافظة (بورجوازية) لا تصلح لزمن الاستعمار (من قبيل فلسفة الأنوار والنزعات الاقتصادية والنفعية والوضعية)، كما يحول من باب أولى دون الوقوع في المناهج الرومانسية والمثالية. يقول العروي: “بالنسبة لنا نحن الذين عانينا الاستعمار، لم يكن باستطاعتنا أن نكون واقعيين إلا تحت راية الماركسية الموجهة من ناحية مبدئية إلى ضحايا البرجوازية” (عبد الله العروي، كارني كوفيد، المركز الثقافي للكتاب، الطبعة الأولى، 2024).
وبقدر ما هي الماركسية -لدى العروي- أداة تحليلية وتفسيرية تقاوم الرومانسية والواقعية المحافظة، فهي محدودة بحدود وظيفتها وليست نهاية “كل فكر أو فلسفة” (نفسه). يؤطر العروي الماركسية بالحاجة إليها وبحيز هذه الحاجة: فهم الواقع العربي فهم ملموسا لتقليص الهوة بينه وبين الواقع الحداثي الغربي. إنها هوة واقعية أنتجت هوة في الفهم، فكان خطاب العروي موجها لتجاوز الهوتين معا: تسديد تفكير الدولة في الحداثة/ النظر إلى الغرب (“الإيديولوجيا العربية المعاصرة” مثلا)، والتأسيس للوعي بـ”مفهوم الحداثة” لدى النخب والمجتمع (هذه غايته في مفاهيم: الدولة والحرية والتاريخ والإيديولوجيا والعقل/ وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه “مفهوم العقل”).
ـــــــــــــــــــــــــ
(1): إذن، لا تعادي ولا تناقض التراث بالضرورة (نتحدث عن التراث وليس عن المنهج التراثي للتفكير في التراث)، بل قد تستفيد منه.. هذا الكلام ليس موجها للذين اعتادوا قراءة “العروي” في كتب ومقالات نقاده من التراثيين، فمواقف هؤلاء مسبقة لا تعرف إشكالية العروي. وهو كلام غير موجه أيضا للذين ألحقوا العروي بوضعانية البورجوازية الأوروبية، فهؤلاء ينظرون إلى الغرب فكرا واحدا لا فرق فيه بين روسو وماركس، ولا بين ديكارت وهيجل).