25 سبتمبر 2025 / 23:35

مؤاخذات على النزعة الأخلاقية لعبد الهادي العلوي

عبد الإله زيات

لن أخفي أنه ظاهرة إشكالية في الفكر العربي المعاصر، لكونه مثقفا موسوعيا جمع بين التراث والمعاصرة وجعل من فكره مشروعا للتخارج مع السائد، رافضا للتصنيفات الارتكاسية بين الماركسي والإسلامي، التراثي والحداثي، كما حاول أن يبني معرفة على الهامش، خارج المؤسسة الرسمية التي رأى فيها أداة لإعادة إنتاج الاستبداد، لكن هذا التمرد على ما فيه من جاذبية، ينطوي على انتكاسات تجعل أطروحاته أقل صلابة مما توحي به لغته.

يبدو لي أن العلوي أقام معركته المعرفية على استدعاء متوتر للتراث، كيف؟ هذا جلي في أنه أراد أن يعيد إحياء النصوص المهمشة ليجعل منها بديلا عن الأطر الغربية، لكن هذا المسعى كثيرا ما وقع في نزعة انتقائية تمجيدية انتخابية؛ فهو يتناول من التراث ما يراه معارضا للسلطة، ويهمل ما سواه، حسبه التراث كله لحظة مقاومة مستمرة، بذلك، يتحول التراث في نسقه إلى مخزن رمزي لتغذية موقفه السياسي، نافيا المادة النقدية بقابليتها للتفكيك والتأويل، واستعادة التراث وفق هذه الرؤية لا تختلف كثيرا عن استعادة الأيديولوجيات القومية له في القرن العشرين، سوى أنها تلون بمفردات يسارية ومعجم صوفي.

مؤاخذاتنا أيضا مخصوصة حوله بشدة الارتياب في المركزية الغربية وتقديمه خطابا حادا ضدها، سوى أن نقده هذا لم ينفصل فعليا عن أدواتها، فتصوره للتاريخ قائم على مركزيات بديلة، الشرق مقابل الغرب، المهمش مقابل المركز، الروح مقابل المادة، أي خطاب ثنائي هذا؟؟ يعيد إنتاج الإطار ذاته الذي يرفضه!!

بالمقابل، الماركسية الغربية التي انطلق منها، ثم حاول أسلمتها أو شرقنتها لم يستطع أن يفلت من بنيتها العميقة فظل يكتب من داخل نسقها وإن بلسان متمرد، ثم إن ما سماه بـ “الاشتراكية الإسلامية” أو “التقارب بين التصوف والماركسية” ظلّ طوبى حالمة تتزيا بالإبستيمولوجيا، إذ في حين أراد أن يبرهن أن التصوف موقف خلاص أنطولوجي، والماركسية أداة تحرر اجتماعي، إذن الربط بينهما ظل قائما على المماثلة السطحية ضديا لتحليل تاريخي صارم، وبعد قراءتي لحسين مروة ونزعاتها استنتجت أن مشروعه بدا أقرب إلى خطاب احتجاجي ثقافي منه إلى فلسفة نقدية ذات نسق داخلي متماسك، ولعل الأهم، أنّ العلوي جعل من النقد الأخلاقي جوهر مشروعه.

ما ساءني في اجتهاده، هو إطلاق رماحه على الاستبداد والفساد والهيمنة والاحتكار، وجعل من نفسه شاهدا على عصر مأزوم ومن ثم هذا الموقف الأخلاقي لم يتطور إلى أفق تأسيسي يقدم بدائل عملية مثله مثل أي مفكر.

صحيح أن نقده أخلاقي جذري، نعم، لكنه ظل يتغذى من رفض أكثر مما يغذيه من تأسيس وهو في ذلك لم يخرج من مأزق المثقف العربي الذي يظلّ صوته صوت احتجاج أو هدم أو جرأة ومروق ولا أثر للبناء والبديل.

وعليه، إنني لم أتوانى في تقديم أطروحة نقيضة صغتها في مواجهة العلوي، وهي أن التحرر ما كان ليأتي من العودة إلى التراث المهمّش ولا من أسلمة الماركسية، إنما من تجاوز هذه الثنائيات كلها نحو تفكير جديد يضع الإنسان، في فرديته وحريته ومسؤوليته، في قلب المشروع، بدلا من جعل التصوف والماركسية رافدين متقابلين.

يمكن القول كذلك إنهما لحظتان تاريخيتان لهما شروطهما وزمنهما، ولا يجوز إسقاطهما على حاضر يطلب أدوات نقد أخرى، وهذا ما أستدعيه في شدة بكل حواراتي واعترافي بالرجل أنه يظلّ مثقفا جريئا، محبا للمعرفة، متحررا في لغته، أما مشروعه لم يتجاوز الطور الأخلاقي الاحتجاجي وقوته في نبرته وجرأته، وضعفه في غياب التأسيس الفلسفي المتماسك، نقده اليوم يحتاج أن يقرأ كتجربة فكرية تحمل شجاعة الرفض، لكنها لا تكفي وحدها لمواجهة عالم يتجاوز كل هذه الثنائيات التي مكث أسيرا لها.