سعيد الكحل
عرف المغرب تغيرا جوهريا على مستوى التحديد الدستوري للهوية المغربية بين الدساتير منذ أول دستور لسنة 1962 إلى |دستور 2011. ذلك أن دساتير 62 و 70 و 72 ثم92 حددت، في ديباجتها، الهوية المغربية في المكون العربي/الإسلامي كالتالي (المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة ، لغتها الرسمية هي اللغة العربية وهي جزء من المغرب الكبير). أما دستور 96 فجاء يكرس المكون العربي في البعد الإقليمي للمغرب بإضافة كلمة “العربي” كالتالي (المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة ، لغتها الرسمية هي اللغة العربية وهي جزء من المغرب العربي الكبير). فالسياق الثقافي والجيوـ سياسي تحكم في هذا التحديد وأفرز محاولات توحيد الدول المغاربية (معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي التي وقعها الراحلان الملك الحسن الثاني والعقيد معمر القذافي في مدينة وجدة يوم 13 غشت 1984).
معاهدة كان من إيجابياتها تحييد القذافي في الصراع حول الصحراء المغربية كما قال المرحوم الحسن الثاني في كتاب “ذاكرة ملك” «كان من واجباتي إسكات المدفعين اللذين كانا يقصفان أبنائي. كان أبنائي يتعرضون لقصف مدفعين أحدهما جزائري والثاني ليبي، وبتوقيع المعاهدة تمكنت من جعل القذافي محايدا، وحصلت على التزام منه بعدم الاستمرار في تقديم أدنى مساعدة لأعدائي وللبوليساريو». أما المحاولة الثانية فتبلورت في معاهدة “اتحاد المغرب العربي” التي وقعها قادة الدول المغاربية الخمس (الملك الحسن الثاني ، الرئيس زين العابدين بن علـى، الرئيس الشاذلي بن جديد ، العقيد معمر القذافي والعقيد معاوية ولد سيدي الطايع ) في 17/2/1989 بمراكش.
وما أن تولى العاهل المغربي محمد السادس العرش حتى أعطى للهوية المغربية أبعادها الحقيقية وذلك بالاعتراف بكل مكوناتها العرقية والدينية ثم دسترتها، بحيث جاءت ديباجة دستور 2011 متضمنة لها بكل وضوح ((المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية)).
هكذا عرف مفهوم الهوية تطورا، فبعد أن كان الإسلام والعروبة هما محددي الهوية المغربية إبان فترة الحماية وإلى السبعينيات من القرن العشرين بفعل تأثير الحركة السلفية المشرقية على الحركة الوطنية/المقاومة المغربية وعلماء المغرب، كما كتب الأستاذ عبد الله العروي (نهل منها العلماء كفئة اجتماعية للتأسيس لمطالبهم والدفاع عنها، وتوقى بها النظام المركزي في مواجهة خصومه المحليين، وأشهرتها فئة التجار …
وشكلت مواقف هؤلاء جميعا الإيواليات الرئيسية التي تحكمت في تطور حركية المجتمع ما بين 1890 و 1930). وهذا سر التركيز على العروبة والإسلام. إلا أن نضالات الحركة الأمازيغية (مثقفين وجمعيات) أحدثت تغييرا في موقف الدولة إزاء الهوية الرسمية للمغرب حيث تم الإقرار بتعدد مكوناتها لتشمل المكون الأمازيغي. وفي هذا الإطار تمت صياغة ميثاق أﯕادير في 5غشت 1991، ثم إعلان الملك الراحل الحسن الثاني، سنة 1994، عن تدريس اللهجات المحلية، وتلاه بث “نشرة اللهجات” في التلفزة المغربية.
ومع اعتلاء الملك محمد السادس العرش، أعطى دفعة قوية للمكون الأمازيغي بدءا بتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وانتهاء بدسترته إلى جانب باقي مكونات الهوية المغربية في دستور 2011. إذن، لم تعد الهوية المغربية الرسمية سجينة الإطار الإيديولوجي الذي حددته الحركة السلفية المشرقية بتأثيرها على الحركة الوطنية في المغرب، بل صارت متعددة المكونات والروافد؛ وبذلك باتت منسجمة مع الواقع الاجتماعي والثقافي والتاريخي للشعب المغربي. وفي إطار تحصين الهوية المغربية في تعدد مكوناتها، نص الدستور على أن “الدولة تعمل على صيانة الحسانية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة، وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب”.
نحن أمام إستراتيجية واضحة غايتها تقوية اللحمة المغربية عبر العناية بكل مكوناتها الثقافية والعرقية والدينية ومأسستها. من هنا نفهم حرص العاهل المغربي، بصفته أميرا للمؤمنين، على ممارسة كل مكونات المجتمع المغربي، بما فيها الطائفة اليهودية، بحق ممارسة شعائرها والاحتكام إلى شريعتها في مجال الأحوال الشخصية إسوة بالمغاربة المسلمين. وقد أكد جلالته على كونه أميرا لكل المؤمنين، مسلمين، ويهودا ومسيحيين في أكثر من مناسبة، تكريسا لثقافة التسامح والتعايش التي شكلت لحمة المجتمع المغربي عبر العصور.
هذا التوجه عبّر عنه جلالته خلال زيارته لمدغشقر، في نوفمبر 2016، حيث شدد، في حواره مع وسائل الإعلام على أمرين أساسين، أولهما أن “ملك المغرب هو أمير المؤمنين، المؤمنين بجميع الديانات، والمغرب لا يقوم البتة بحملة دعوية ولا يسعى قطعا إلى فرض الإسلام”. الأمر الثاني أن “الإسلام في الدولة المغربية معتدل وسمح”.
إن المغرب بلد التسامح ثقافة وقيما ومذهبا، وعاش فيه أتباع الديانات السماوية في سلم وتعايش مع بقية مكونات الشعب المغربي. هذا التلاحم والتعايش بين المغاربة بمختلف معتقداتهم هو ما يشكل جوهر الهوية المغربية. لقد تبلور وعي لدى المغاربة بخطورة الحروب الهوياتية والصراعات الطائفية والمذهبية على استقرار الدول ووحدة الشعوب، التي يغذيها تيار الإسلام السياسي وتؤججها التنظيمات المتطرفة. وهذا الذي شدد عليه جلالة الملك حين استقبل قداسة البابا فرنسيس في مارس 2019 ، حيث اعتبر الزيارة تأتي في سياق “يواجه فيه المجتمع الدولي كما جميع المؤمنين تحديات كثيرة .. تحديات من نوع جديد تستمد خطورتها من خيانة الرسالة الإلهية وتحريفها واستغلالها وذلك من خلال الانسياق وراء سياسة رفض الآخر”. فما يميز الشعب المغربي هو التسامح والتعايش بين كل مكوناته، وهما أساس استقراره، كما قال جلالة الملك للبابا “في عالم يبحث عن مرجعياته وثوابته فقد حرصت المملكة المغربية على الجهر والتشبث الدائم بروابط الأخوة التي تجمع أبناء إبراهيم عليه السلام كركيزة أساسية للحضارة المغربية الغنية بتعدد وتنوع مكوناتها”. فهذا التلاحم، يقول جلالته، “هو واقع يومي في المغرب وهو ما يتجلى في المساجد والكنائس والبيع التي ما فتئت تجاور بعضها البعض في مدن المملكة”.
ودعما لهذا التلاحم والتعايش، جاءت المبادرة الملكية لمأسسة المكون اليهودي عبر إعداد منظومة تشريعية تهم اليهود المغاربة داخل الوطن وخارجه بالتنسيق والتشاور مع ممثلي الطائفة اليهودية وهيآتها، وذلك للمحافظة على التراث الثقافي والشعائري للديانة اليهودية وقيمها المغربية الأصيلة؛ وكذا تقوية روابط اليهود المغاربة المقيمين بالخارج بوطنهم المغرب وإذكاء روحهم الوطنية وغيرتهم على المصالح العليا للمغرب ، فضلا عن النهوض والاعتناء بالتراث اللامادي اليهودي المغربي مع المحافظة على تقاليده وصيانة خصوصياته.
بهذه المبادرة، تكون إمارة المؤمنين قط قطعت الطريق على كل الذين لا يؤمنون بالتعدد والاختلاف ، أو الذين يسعون لجعل المغرب “إمارة للمسلمين” فقط ويحنون لعصور الجزية والسبي والاسترقاق. فالدين لله والوطن للجميع.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=17985