ذ. محمد جناي
قال الله تعالى :” فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً اَوْ عَلَيٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنَ اَيَّامٍ ا۟خَرَۖ ” (البقرة : 183) ، فالآية تتضمن حكمين: حكم صيام المريض ، وحكم صيام المسافر ، وقبل أن نتعرض للحكمين من الناحية الفقهية لابد أن نشير إلى سر الإفطار بعذر و هي أن الله تعالى أباح الإفطار بالأعذار بعذر المرض وعذر الأسفار ، فكأنه يقول : عبدي إذا مرضت فأفطر فاقض يوما ، وإن فات الزمان فلا يفوتك الثواب .
والأحكام الفقهية في حق المريض والمسافر فقد أفاض الفقهاء في بيانها، فإليكم بيانها بالتفصيل مرتبة كما وردت في الآية الكريمة :
أولا : حكم صيام المريض
المرض من الأعذار المبيحة للفطر في رمضان؛ فيجوز الفطر إن خاف المريض بالصوم زيادة المرض ، أو تماديه، أو وجود جهد ومشقة ؛ بخلاف الصحيح، فالمشقة لا تسقط عنه الصوم .
قال ابن عرفة في تفسيره لقوله تعالى( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً اَوْ عَلَيٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنَ اَيَّامٍ ا۟خَرَۖ ) : لم يقل : فمن مرض ، وظاهره أنه لا يفطر بمطلق المرض ، بل بمرض محقق ثابت ، يصدق أن يقال في صاحبه كان مريضا، لأن (( كان )) تقتضي الدوام .[1]
وأما في المرض اليسير ، الذي لا يؤثر فيه الصوم ، ولا يتأذى به – مثل الزكام أو الصداع اليسيرين ، أو وجع الضرس، وما أشبه ذلك- فلا يحل له أن يفطر ، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة : الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة ؛ وذلك لأن المريض إذا لم يتأذ بالصوم ، كان كالصحيح فيلزمه الصيام ؛ ولأن المرض لما كان منه ما يضر ، ومنه ما لا يضر ، اعتبرت حكمته، وهي ما يخاف منه الضرر .[2]
ثانيا : حكم المسافر
الرخصة في السفر رحمة بالمسافر لما في السفر من مشاق ومتاعب ومجرد السفر فيه مظنة المشقة ولو كان بالطائرة أو الباخرة أو السيارة أو القطار وكله يجوز فيه الإفطار ، كما يجوز فيه الصيام ، وأكثر السلف والخلف ذهبوا إلى إباحة الفطر للمسافر ، فمنهم المشدد ، ومنهم المخفف ، ومنهم المعتدل بين الفريقين، وقد اختلفوا في أيهما أفضل للمسافر الفطر أم الصيام ؟
(1) – قال أبو حنيفة ومالك والشافعي : الأفضل الصوم لمن قدر عليه ولم يشق ليوافق المسافر عادة الناس.
(2): أما الحنابلة فإن الأفضل عند إمامهم أحمد بن حنبل -رحمه الله – الفطر في السفر ، وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والأوزاعي.[3]
وبالجملة فحكم صوم المسافر الذي لا يشق عليه الصوم، هو أن الصوم أفضل له، وهو مذهب الجمهور : الحنفية، والمالكية، والشافعية ، وذلك لعموم قوله تعالى :”وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٞ لَّكُمُۥٓ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَۖ “(البقرة : 183)، و للحديث التالي : عن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عنه قال: ” خَرَجْنا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بعضِ أسفارِه في يومٍ حارٍّ، حتى يضَعَ الرَّجُلُ يَدَه على رأسِه مِن شِدَّةِ الحرِّ، وما فينا صائِمٌ إلَّا ما كان مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وابنِ رواحةَ “، ووجه الدلالة :فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث صام هذا اليوم وهو مسافر، وفعله عليه الصلاة والسلام هو الأفضل ولأن الصوم عزيمة، والفطر رخصة، ولا شك أن العزيمة أفضل.
وأما حكم صوم المسافر الذي يلحقه بالصوم مشقة ، بحيث يكون الفطر أرفق به، فالفطر في حقه أفضل ؛ وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة : الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة؛ وذلك لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عز وجَل، و إذا أفطر وجب عليه قضاء ما أفطره من أيام.[4]
قال القرطبي رحمه الله :”جل مذهب مالك التخيير بين الصوم والإفطار ، لحديث أنس قال : سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم )، رواه مالك .[5]
ثالثا: خوف الحامل أو المرضع الضرر على أنفسهما أو ولديهما
يباح للحامل والمرضع الفطر في رمضان، سواء خافتا على نفسيهما أو على ولديهما، وهذا باتفاقِ المذاهب الفقهية الأربعة :الحنفية، والمالكية، والشافعية،والحنابلة، لحديث أنسِ بن مالك الكعبي رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ اللهَ تبارك وتعالى وضَعَ عَنِ المُسافِرِ شَطرَ الصَّلاةِ، وعن الحامِلِ والمُرضِعِ الصَّومَ- أو الصِّيامَ “،أي وضع عنهما لزوم الصيام في أيام الحمل والرضاعة.[6]
رابعا : حصول عطش شديد أو جوع يخاف منه الهلاك
الدين رحمة من الله تعالى وما شرع عليهم من عبادة لا لإجهادهم وإعناتهم بها ، وإنما شرع عليهم ما فيه صلاحهم وفلاحهم ، فهو الرحمن الرحيم ورحمته وسعت كل شيء ، ومن رحمته بعباده الصائمين أن وضع ما فيه جهد وشقاء ، كأن يكون الصائم قد بلغ به العطش إلى درجة الهلاك فقد جعله مخرجا؛ بينه لنا الفقهاء الأعلام استنبطوه من الأحاديث النبوية الشريفة ، ولولاهم لهلك الناس وفي قول لضلوا ونثبت أقوالهم دليلا لصحة ما ذكرناه:
1 – عن ابن وهب لولا مالك والليث لهلكت،كنت أظن أن كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يعمل به .
2 – سئل ابن المبارك عن مالك رضي الله عنه فقال : ذاك أحد الأحدين، وقيل لابن المديني: هو إمام في الحديث فقال: هو إمام منذ أربعين سنة،وهنا ندرك أن ماروي عنهم مستنبط من الكتاب والسنة نتيجة دقة فهمهم للنصوص المأثورة.
لهذا قال مالك رضي الله عنه :”ومن أفطر في رمضان لعذر من عطش شديد أو مرض ثم تلذذ فأصاب أهله بعد ذلك فأخاف عليه”، فإن قوله هذا – أي إباحة من أفطر لعذر من عطش شديد -، لم يكن افتراء ولا مجرد قول ذكره عن هوى ، وإنما التمسه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدليل مارواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس معه فقيل له : إن الناس قد شق عليهم الصيام ، وإن الناس ينظرون ما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام بعضهم فبلغه أن ناسا صاموا فقال : أولئك العصاة “رواه مسلم.[7]
انتهى
ـــــــــــــــــــــ
هوامش :
[1] : المبسط في الفقه المالكي بالأدلة ، تأليف الدكتور التواتي بن التواتي ،الجزء الثاني ، كتاب الصوم والحج، دار الوعي للنشر والتوزيع ، الجزائر ، الطبعة الثانية : 2010، (ص: 111).
[2] : موقع الدرر السنية ، الموسوعة الفقهية ، كتاب الصوم ، الباب الثالث : من يباح لهم الفطر ، الفصل الأول : المريض ، المبحث الثاني : حد المرض الذي يبيح الفطر.
[3] :المبسط في الفقه المالكي بالأدلة ، تأليف الدكتور التواتي بن التواتي ،الجزء الثاني ، كتاب الصوم والحج، دار الوعي للنشر والتوزيع ، الجزائر ، الطبعة الثانية : 2010، (، ( صفحات : 174 – 176).
[4]: موقع الدرر السنية ، الموسوعة الفقهية ، كتاب الصوم ، الباب الثالث : من يباح لهم الفطر ، الفصل الثاني : المسافر ، المبحث الثاني : حكم صوم المسافر.
[5]: الحبيب بن طاهر ، كتاب الفقه المالكي وأدلته، الجزء الثاني : الزكاة – الصوم – الحج ، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر بيروت- لبنان ، الطبعة الخامسة ، 2007،( صفحة : 110).
[6] :موقع الدرر السنية ، الموسوعة الفقهية ، كتاب الصوم ، الباب الثالث : من يباح لهم الفطر ، الفصل الرابع : الحامل والمرضع ، المبحث الأول : حكم صوم الحامل والمرضع.
[7]: المبسط في الفقه المالكي بالأدلة ، تأليف الدكتور التواتي بن التواتي ،الجزء الثاني ، كتاب الصوم والحج، دار الوعي للنشر والتوزيع ، الجزائر ، الطبعة الثانية : 2010، (صفحات: 186 – 187 – 188).
المصدر : https://dinpresse.net/?p=19887