ذ. محمد جناي
الملاحظ للحقل السياسي اليوم نجد أن الكثير يخلط بين كلمة ” السياسة ” على إطلاقها وبين كلمة ” علم السياسة ” ؛ فكلمة السياسة المختزنة في الوعي العام للجماهير لا تساوي كلمة ” علم السياسة ” كأحد فروع العلوم الاجتماعية وهو العلم الذي يتناول الظاهرة السياسية في إطار علمي ، ويُضبَط هذا التناول من خلال الالتزام بمصطلحاته وأبجدياته وطرق بحثه ومناهجه المتعارف عليها بين العلماء والباحثين السياسيين ؛ وإنما تعني كلمة ” السياسة ” العمل السياسي والممارسة السياسية والاهتمام بالشأن العام ، وهذه “السياسة ” هي التي نلمسها في وسائل الإعلام المختلفة في الحوارات والتحقيقات والتعليقات والتحليلات التي نسمعها من النخب السياسية ومن رجل الشارع العادي ، وفي إطار هذا التحديد لمدلول كلمة “السياسة ” يمكن القول بأن عموم الجماهير معرضة يوميا تقريبا للتعامل مع “السياسة” ، فلا يكاد ينجو ميدان معاش من الاشتباك مع موضوع السياسة.
في هذا السياق فإن “السياسة” تختلف عن غيرها من الفنون كونها شأنا عاما ، فعلى سبيل المثال إذا أصيب المرء بمرض ما تكون الاستجابة هي الذهاب إلى الطبيب المختص لكون الطب علما وفنا قائما بذاته ، وإذا ذكرت مسألة دينية نسمع مقولة ” لا أدري” وأن هذه المسألة تتطلب فقيها؛ لكون الفقه وأصوله علما قائما بذاته ؛ بينما في السياسة نجد الجرأة على التحليل والنقد ، بل نجد الجرأة على الممارسة قبل أن تتوفر خلفية علمية قوية عن قواعد العملية السياسية، فبمجرد تشكل خلفية عن أحد الأحداث السياسية تجد عموم الجماهير والمهتمين بالشأن العام يحللون ويناقشون ؛بل ويمارسون ، فأصبحت السياسة مهنة من لا مهنة له ، ومجالا مستباحا لكل ألوان الهواة، مما خلق حالة من الفوضى والاضطراب في مجال من أخطر المجالات ،خاصة أننا نلحظ تغلغل السياسة واشتباكها مع كل حياتنا، فالعالم الذي نعيش فيه هو عالم سياسي بامتياز، إذ تتحكم السياسة في كل مفاصله.
ويمكن فهم هذه الجرأة وهذه الفوضى في إطار كون “السياسة ” شأنا عاما لا يمكن منع عموم الجماهير من إبداء آراءها أو المشاركة فيها ، بل إن الحياة السياسية في الدولة المدنية الحديثة تقوم بالأساس على هذه المشاركة الجماهيرية الواسعة على المستويات المختلفة للممارسة السياسية ، وبإحجام الجماهير عن تلك المشاركة تصاب الحياة السياسية بالشلل.
ولأن القرار السياسي يرتبط ارتباطا وثيقا بمستقبل المجتمع ، بقائه أو انهياره ، فقره أو غناه ورفاهيته، والأمثلة على هذه الحقيقة أكثر من أن تحصى ، ويكفيك النظر في أحوال الدول المختلفة وصعودها وأفولها ، وآثار الحروب المدمرة عليها لتعرف دور القرار السياسي وتأثيره الحيوي والمصيري في مسار الأمم والشعور، ولأجل هذا جاءت هذه المقالة كمحاولة لنقل المهتمين بالشأن العام من المشاركة السياسية اللاواعية إلى المشاركة الواعية ، وهي المشاركة التي لا بد أن تتعدى متابعة الأحداث التي تدور ، سواء كان عن طريق تحليلها، وتفسيرها، وتقييمها، والتنبؤ بها إلى ماهو أبعد من الأحداث ، أي إلى فهم أهم المفاهيم والقواعد التي تحكم اللعبة ، ليكون بمثابة الاختيار المناسب لمن يرغبون في فهم طبيعة الممارسة السياسية .
وهذه القواعد السياسية يمكن استخدامها على عدة مستويات : فقد تستخدم على مستوى الرؤية والطرح السياسي كدليل توجيهي وإرشادي يسترشد به الممارس السياسي في صياغة الرؤية السياسية ، وعلى مستوى الاستراتيجية تستخدم كدليل تفسيري يفسر الواقع ويضع الأحداث التي تبدو متناثرة وغير مترابطة في إطار محدد وهو الإطار الذي يجيب على التساؤلات الحرجة والملحة ، ومن ثم يمكن من خلاله تحديد الاستراتيجيات المناسبة لمواجهة ذلك الواقع على وجه الدقة ، وعلى مستوى التنفيذ كدليل معياري نحدد به مدى قربنا أو بعدنا من الممارسة السياسية الواعية .
ومن ثم فلهذه القواعد أهمية كبيرة كونها تمثل جانبا من خلاصة الفكر والخبرة والحكمة البشرية على مر العصور:
أولا: تؤدي إلى أن يتخذ القرار المتعلق بحالة أو وضع ما على ضوء عموم التجربة البشرية وليس على ضوء تلك النقطة الصغيرة التي تمثلها معطيات تلك الحالة ، ومن ثم يكون اتخاذ القرار نتاج التأمل الموضوعي للتراكم المعرفي البشري أكثر من كونه نتاج التأثر بحرارة اللحظة السياسية الراهنة.
ثانيا: من الآثار المهمة لاستخدام تلك القواعد كونها تضع كل قرار أو فعل أو ممارسة سياسي(ة) في إطار اجتماعي واسع ، وهو مايؤدي إلى اعتماد الرؤى البعيدة وإدراج المزيد من الموارد في عملية صنع القرار ، وهو مايجعل الممارسة السياسية ممارسة استراتيجية مستقبلية وليست ممارسة وليدة ردود الأفعال، فعلى سبيل المثال عندما نقرر أن “القهر يولد الثورة” فإن الوعي بتلك القاعدة يجعل الحركة السياسية المقاومة تتجاوز ردود الفعل المصاحبة لحالة القهر -دون التقليل من أهميتها المرحلية-إلى الإعداد للرؤية والمبادرة المستقبلية بحالة الثورة التي سيخوضها المجتمع، ومن ثم تفعل المزيد من الموارد البشرية والاقتصادية في التحضير لذلك السيناريو أو تلك الرؤية.
ثالثا: تساعد في تحديد المعايير والسياسات المناسبة للتعامل مع القضايا المختلفة، من خلال تحديد العوامل التي تؤثر فعلا في القضايا محل الصراع، ومن ثم فإنها تمارس دورا مهما في تقليل نسبة اللجوء إلى العوامل التي لا تتعلق بالقضية فعليا، وهو مايمكن وصفه ، بأنها تقلل نسبة إثارة التساؤلات الخطأ عن القضية ، مما يقلل بالتبعية من نسبة الخطأ في صنع القرار أو في الممارسة السياسية ،كما أن قدرتها على وضع المعايير والسياسات المناسبة للتعامل مع الأوضاع المختلفة يحد بدرجة ما من السلطة التقديرية لصناع القرار ، مما يقلل من نسبة الخطأ ، فعندما تقرر القاعدة مثلا أن ” الصراع نوعان : صفري وتنافسي” يصبح السؤال الذي تثيره بعض التنظيمات السياسية المقاومة لأحد الأنظمة السياسية الديكتاتورية – وهو الصراع الذي قد يصنف على أنه صراع صفري- حول النضال الدستوري وكيفية كسب أصوات الجماهير في الانتخابات -وهي أحد آليات التعامل مع الصراع التنافسي-في غير محله ، وبالتالي تصبح القرارات الناجمة عن ذلك التساؤل خطأ بدرجة ما ، إذ تختلف آليات التعامل وطبيعة التساؤلات المطروحة في الصراع الصفري عن تلك المطروحة في الصراع التنافسي، والعكس صحيح في حالة أن الدولة تريد مقاومة حركة تسعى لزعزعة استقرارها ، وهذه الحركة تعتبر الصراع صفريا ، في ذلك الوقت فإن لجوء الدولة لآليات الصراع التنافسي قد يكون إجابة خاطئة على السؤال المطروح عليها.
رابعا: تساعد الكوادر السياسية متوسطة التدريب على معالجة قضايا وأوضاع معقدة نسبيا ، لم يكونوا ليستطيعوا التعامل معها دون الإلمام بتلك القواعد،خامسا : توفر إطارا أو مبررا نظريا قويا يستشهد به القادة والمنظرون السياسيون لتبرير قراراتهم السياسية ، مما يعزز مصداقيتهم أمام قواعدهم السياسية وعموم الجماهير.
خامسا: توفر تلك القواعد الجانب المعرفي في عملية صنع القرار ، فعملية صنع القرار تعتمد على أربعة أبعاد ثنائية الأقطاب، البعد الأول هو العقل (التفكير)، والعاطفة (الشعور)، والثاني الاهتمام بالآخرين أو الانكفاء على الذات والثالث الحكم (التفصيل والحسم)، والتصور (الإدراك المعرفي العام)، والرابع التقدير (طلب الدليل)، والتخمين (الظن)، فعلى سبيل المثال إذا كان يميل متخذ القرار إلى أقطاب التفكير والاهتمام بالآخرين والحكم والتقدير فإن قراراته عادة تميل إلى كونها منطقية وتحليلية موضوعية ، حاسمة ، وتجريبية، وتلك القواعد تعزز أقطاب التفكير والحكم والتقدير مما يحسن من الأداء العام للممارس السياسي ومتخذ القرار.
ـــــــــــــــــــ
هوامش :
(1):د. جاسم محمد سلطان ، قواعد في الممارسة السياسية، الطبعة الأولى 2008، مؤسسة أم القرى للترجمة والتوزيع ، المنصورة.
يتبع..
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13478