1 أغسطس 2025 / 11:09

قصتي مع حفل الاستقبال الملكي: هيبةُ ملك

عبد الخالق حسين ـ رئيس المجلس العلمي لطانطان

ركنت سيارتي بموقف السيارات المؤدى عنه بمطار أكادير المسيرة؛ ثم دلفت إلى بناية المطار الجميلة؛ كنت قد حجزت تذكرتي عبر الهاتف؛ رحلة أكادير-طنجة.

اليوم هو الثلاثاء 29 يوليوز، وأنا من ضمن العلماء المنضوين تحت مظلة المجلس العلمي الأعلى بالمملكة الشريفة؛ ونحضر مراسيم الولاء بعمالة المضيق يوم 30 يوليوز مع الوفود الدبلوماسية وضيوف المملكة، يوما واحدا قبل حفل الولاء الذي يجتمع فيه مسؤولو الإدارة الترابية والأعيان وممثلو الأقاليم والجهات لتقديم فروض الولاء بين يدي مولانا أمير المؤمنين بساحة القصر الملكي العامر بتطوان يوم 31 يوليوز.

وصلتُ مطار ابن بطوطة بمدينة طنجة بعد الزوال، وقد استغرقت الرحلة ساعة ونصف؛ كانت خفيفة على النفس، وممتعة تشوقا لمقصدها، وهي ملاقاة السدة الشريفة مولانا أمير المؤمنين.

استقبلني خارج المطار شاب تطواني لطيف وهادئ وذو لكنة جبلية مطربة؛ كنت قد رتبت معه مسبقا تفاصيل الرحلة.

توجهنا لأقرب مطعم سمك، وانغمرنا في حديث جنوب-شمال، كأن كل واحد منا يخاطب نفسه؛ فقد صهرت توابتنا الوطنية معادننا كمغاربة، وأصبح المواطن المغربي ذو بنية نفسية وسوسيولوجية فريدة ومتميزة، تجمع بين عراقة يصونها الدين والعقيدة، وانفتاح تضبطه تقاليد العرف والوالدين والكثير من “الصواب”.

فاجأت الشاب الوسيم “يونس” عندما رويت له قصة الزواج الأول لوالدي رحمه الله، وهو جندي يشتغل بثكنة مدينة تطوان خمسينيات القرن الماضي؛ حيث أصيب بوعكة صحية أُدخل على إثرها المستشفى؛ ليخرج من فترة العلاج بخطوبة من الآنسة الممرضة التي كانت تقوم على تمريضه؛ لقد كانت فتاة تطوانية تجمع بين جمال الجبليات والإتيكيت الأندلسي. لا زالت صورها بلباسها التقليدي الأنيق تؤثث ألبوم الصور العائلي في بيتنا.. كنت باستمرار أعجب لصنيع الوالدة؛ كيف تحتفظ بصورة (السيدة الأولى سابقا)!!

لقد عبّر زواج والدي ذو الأصول الصحراوية “بفتاة تطوانية” عن تلك الهوية المغربية المركبة والفريدة التي تعبر عن (الذات المغربية الواحدة).

مررت بشوارع طنجة ثم تطوان وأحسست بشعور يذكرني بأن هذه الأرض قد مرّ أو عاش أو سكن عليها أجدادي البيولوجيون في زمن ما..

وأنك لست – أي أنا – لست غريبا عنها؛ فكل حبة رمل أو غصن شجرة تعرفك وتعرفه، ويشتاق لرؤيتك.

وصلتُ إقامتي بمرتيل، وأديت صلواتي جمعا وقصرا؛ ثم أخذت حماما وبعض الأكل وخلدت للنوم استعدادا ليوم جميل، كلي شوق لشهوده، إنه يوم الاستقبال الملكي.

توجهت صباحا إلى مقر المجلس العلمي للمضيق حيث يجتمع علماء المملكة لتسلُّم استدعاءات الحفل وانتظار ساعة الإذن بالدخول إلى ساحة الاستقبال.

توجهنا إلى مكان الحفل، وفي الطريق تدهشك أمواج المواطنين المتوجهة للاصطفاف بجنبات الطريق التي سيسلكها الموكب الملكي المهيب؛ جميع أنواع الفرق الفلكلورية ومجموعات الأهاريج الشعبية صادفتها هذا الصباح؛ إنه لشعور إمبراطوري أن تجد نفسك كمغربي تنتمي إلى هذا النسيج الفسيفسائي من ألوان الإبداع والفرجة، والذي يعبر عن (أمة عريقة) في صناعة البهجة والفرحة، ومبدعة في تقاليد الاستقبال والترحيب والاحتفاء بالسلطان.. أليست التبوريدة فرحة تلي العودة من المعركة مباشرة؟ إنها الرصاصة المبتسمة التي تنسخ الرصاصات العابسات.

أخذت هاتفي وسجّلت العديد من المقاطع التي تتغنّى بالملك والتاريخ والجغرافيا، معطّرة الألحان بالصلاة على سيدنا رسول الله.

اخترقنا هذه اللوحات الحية من السعادة العامة والعمومية والعفوية.

ودخلنا الفضاء المخصص للاستعداد، وجلسنا على كراسي الانتظار المعدة للوفود والضيوف، منتظرين الإذن بالدخول.. بيننا أعضاء السلك الدبلوماسي ذكورا وإناثا، وشخصيات تمثل جاليتنا بالخارج، وعدد من شخصيات الفن والأدب والسياسة، وكذا الوزراء.

فجأة، تدخل القاعة لبوءات المنتخب الوطني النسوي في صف متراص؛ ليقف الجميع ترحيبا وتصفيقا لهن؛ يدرك الجميع ما تقدمه الشهرة الرياضية من خدمات للوطن على مستويات تسويق الصورة والهوية والاقتدار الحضاري.. الرياضة لم تعد ترفاً بل قوة ناعمة في عالم اليوم.

يبدو مثيرا للإعجاب، أن لحظة انتظار الإذن بالدخول إلى ساحة الاستقبال لملاقاة أمير المؤمنين هي لحظة تتجلى فيها الأبعاد الثلاثة للوطنية: اللباس الأبيض الموحّد، وهو التعبير السيميولوجي عن الصفاء والتمازج.. والتجمهر العفوي، وهو المعبر عن المساواة الوطنية على صعيد واحد بلا حواجز.. وجمالية لحظة تلاقي مغاربة العالم.

أُذن لنا بالدخول إلى الخيمة المزركشة باللونين الأحمر والأخضر، والمزينة بما لذ من أطباق الحلوى والعصائر.

في لحظات الانتظار الأخيرة، تجاذبت الحديث مع رجل مسنّ يقف على يميني؛ عرفني بنفسه ممثلا لمغاربة شمال فرنسا؛ حدثني عن إنجازات المغاربة في الغرب، وعن العبقرية المغربية والقدرة على الاندماج في حضارات العالم دون المسّ بأسس وروح الخصوصية الوطنية المغربية؛ وحدثني عن كثير من مظاهر التعلق بالثوابت الدينية والوطنية بين أبناء الجالية هناك.

لقد كانت المفاجأة من السيدة الواقفة عن شمالي؛ وهي شابة من مدينة فاس، خريجة جامعة الأخوين، تشتغل خبيرة “بشركة غوغل” بفرع دولة إيرلندا، في تخصص الأمن السيبراني ومكافحة التجسس.. تتقن عديدا من اللغات.. بدأت حديثها بوصف اجتهادها لتحفيظ أبنائها القرآن الكريم.. وحدثتني عن تجربتها في حفظ أحزاب من القرآن في مسجد جامعة الأخوين أثناء دراستها هناك!!!

أثنت كثيرا على مجهودات المجلس العلمي الأعلى، وعلى دور العلماء في خدمة القرآن.. وقد جاءت إلى الحفل مدعوّة كممثلة للجالية المغربية بإيرلندا، وهي معجبة بتسامح الدولة مع الأجانب.. تحدثنا عن الخطاب الديني في الغرب، وعن البعثات العلمية والوعظية التي تبعثها المملكة إلى الخارج في رمضان، وقد عبّرت عن إعجابها بالمستوى العلمي والثقافي، وكذا وسطية الخطاب الديني المغربي الذي يلقى تجاوباً كبيراً من طرف الدولة والشعب الإيرلنديين.

عُزفت المعزوفة الملكية الجليلة بإيقاعها الرهيب ليطلع علينا أمير المؤمنين بهيبته وطلعته البهية.

سوف أكرر وأقول: إنه شتّان بين رؤية جلالة الملك عبر الوسائط الإعلامية وبين رؤيته مباشرة؛ فبعد تقدم الشخصيات والضيوف للسلام على جلالته، ينزل أمير المؤمنين من المنصة ليقوم بجولة برفقة ولي العهد مولاي الحسن وشقيقه مولاي رشيد؛ يمر جلالته على بُعد متر منا؛ يصافح بعضنا أحيانا، ويلوح بيده الكريمة حيناً؛ عندما يقابلك جلالته بشكل مباشر، ومن مكان قريب، دعك من كل ما أبدعه البلاغيون في وصف لحظة الاندهاش والانبهار وتقريب “أنوار الهيبة السلطانية” من الإدراك..

تتداعى عليك متزاحمة ومتسارعة العديد من المشاعر والصور والانطباعات والذكريات، متشابكة ومشكّلة حقيقة ذهنية وواقعية وتاريخية وحضارية اسمها (الإمبراطورية المغربية)، مع شعور غامر بالأبوة والاحترام والإجلال، وضياع اللغة والتعبير، وانطلاق اللسان بجملة واحدة هي: “عاش سيدنا”.

دعوني أحاول أن ألتقط هذه اللحظة الرهيبة بهذه الكلمات:

هذا المار أمامك هو: حفيد سيدنا رسول الله.. أمير المؤمنين؛ قبس من سرّ النبوة الباقي على الأرض؛ لقد تبرك الناس بجده صلى الله عليه وسلم؛ فتتبرك أنت بمصافحته الآن.. هو عنوان الهوية والحضارة.. رمز الرحم والأبوة والتراحم المغربي.. سليل المجاهدين الذين قاوموا كل أنواع الاستعمار.. أمعن نظرك فيه؛ إنه يجمع بين التواضع والقرب من الناس والرحمة والرأفة..

هو الواقف خلف الإمام يوم الجمعة.. والجالس أمام العالم في الدروس الحسنية في رمضان..

هو الصاعد إلى الجبال عند النكبات.. هو الرحالة إلى أرض الله لخدمة مستقبل الوطن.. هو الخادم لكتاب الله طبعاً وتوزيعاً على العالمين..

هو المتأثر لحال الفقير واليتيم وذي الحاجة..

هو الاستمرارية.. والقوة والطموح والأمل..

إنه الملك محمد السادس أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين؛ الذي يمر أمامك الآن..

ينتهي الحفل.. لكن لا تنتهي ذكرياته..

ويُختتم العرس الشريف بأحد أعظم المشاهد التي حضرتها وشهدتها في حياتي؛ تُعطى التعليمات؛ فتُحمل أطباق الحلوى التي كانت معروضة في حفل الاستقبال، ويُوزّعها المشرفون على التنظيم على جميع المواطنين الذين كانوا واقفين على جنبات الشوارع لاستقبال الملك..

نحن الحاضرون بساحة الاستقبال، فقط ننوب عن الناس..

و”حلوى الملك” مباركة؛ لهذا تُوزّع على الناس.. كل الناس يحبون الملك، ويريدون قبسا من بركة الملك..

يُختتم الحفل بوداع أمير المؤمنين؛ ونلتحق نحن بمدينة تطوان القريبة؛ لتناول الغذاء بحضرة الأمير مولاي رشيد حفظه الله..

في الأخير: معنى أن يستقبلك الملك أي أن تشهد نفسك لحظة الولاء والبيعة للسلطان في الأرض؛ ولكنها شهادة تُكتب في السماء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾.