قراءة معرفية في خطبة تسديد التبليغ (8) دروس ذكرى الاستقلال: التوحيد والتحديث
محمد زاوي
جاءت خطبة الجمعة الماضية (بتاريخ 14 نونبر 2025)، في موضوع “ذكرى الاستقلال المجيد”. وقد بناها صاحبها على الحديث الشريف: “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا” (سنن الترمذي)، بما يكتنزه هذا الحديث النبوي من دروس عامة وخاصة، ومن عبر أصيلة وقديمة وخالدة، وأخرى يمليها التأويل في ضوء المستجد الحديث، كما يمليها المطلوب في شارطنا التاريخي الحالي. في هذا الإطار، ربط صاحب الخطبة بين قيمة الأمن كما هي في الحديث، وكما هي في تاريخها وتطورها وسبيل حصولها ووقوعها.
فما كان للأمن أن يحصل إلا باستقلال عن الاستعمار، وما كان الاستقلال ليحصل إلا بالتضحيات الجسام للملك وشعبه، وبوحدة النضال الوطني، والتعلق بالدين الجامع. خط واحد منسجم مع حركة التاريخ، تكلل بتوافق وطني وتكثف لعناصر الهوية الوطنية في “الدين”.. ولذلك استحالت الإيديولوجيا الدينية الوطنية إيديولوجيا تقدمية، وذلك لأنها وافقت حركة التاريخ وتطابقت مع المنحى الضروري لتقدمه..
وكذلك ينبغي أن تكون اليوم، محاولةً تأويلية لحفظ الاستقلال واستكماله وتحديثه.. وكأن صاحب الخطبة يستدعي “تأويلا في الدين” ينسجم مع شرطنا التاريخي عسى أن يُؤتي أكله وثماره، كما آتاها قبل سبعين عاما، عندما كان المغاربة في حاجة إلى الدين كـ”محفز” (إذا استعملنا تعبير “مالك بن نبي”) لتوحيد صفوف المقاومين والوطنيين بكافة فئاتهم وطبقاتهم وإيديولوجياتهم، وكذا تحقيق التوافق بينهم وبين سلطانهم..
إنها توليفة تجمع بين أمرين: الدين والتدين، أو لنقل: الوجدان والتاريخ.. فلا يستحيل الوجدان المتحقق في الفرد حائلا بينه وبين التاريخ، ومعيقا له في عمله التاريخي؛ بل يدفعه لمزيد من الفهم والوعي وتحقيق المطلوب تاريخيا.. أما إذا خرج الوجدان عن هذا المنحى، وهو ما جاءت خطبة “التسديد” لمنعه -على الأرجح-، فيستحيل الوجدان نقيضا للمنحى التقدمي للتاريخ، بل قد يستدعى لتقويض جهود الدولة وعرقلة مشاريعها والتشغيب على تقدمها في التاريخ.. لا لعيب في الوجدان، وإنما لعيب في سياسة بعض “الخلعاء الدخلاء” الذين يجعلون منه خطابا وممارسة للتخلف والرجعية وإرباك تقدم الأوطان واستقرارها..
لقد ظلت فئات، تعيش اليوم على هامش الخطاب الديني الجامع، تهرّب “الخطب المنبرية” عن حقيقة المغاربة وما يطلبونه وما به يجب أن يعرفوا دينهم.. فتحولت كثير من المنابر إلى فضاءات للندبة الإيديولوجية والتأطير السياسي الدخيل.. وهذا ما حاولت الخطبة التي بين أيدينا تجاوزها بتطرقها لموضوع “التحديث” كجهاد أكبر.. لضرورة تكتيكية غاب هذا الخطاب عن المنابر وتأخر، لكنه اليوم أصبح مطلوبا وقد شرعت الوزارة المعنية بتكريسه، عسى أن تحتل المنابر مكانتها من جهتين:
-من جهة توحيد خطابها: فلا يقبل أن يكون الدين إلا في خدمة وحدة الدولة المغربية وشعبها ومصالحها الاستراتيجية، بهذه الكيفية يكون الدين/ الوجدان في خدمة استراتيجية الدولة، أي في خدمة الاستراتيجية التي تخدمه ويخدمها، لا في خدمة استراتيجيات لا هي قادرة على خدمته، ولا هي قادرة على خدمة مصالحه معتقديه ومتدينيه.
-ومن جهة ترقية خطابها: وذلك بتحديثها، بمعنى جعلها مواكبة للتحديث المغربي وتقدم قوى إنتاجه وأوراشه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. وأيضا، بجعلها مدخلا تأطيريا يؤهل الذهنية الاستراتيجية المغربية للمسقبل، لعالم حديث تتنافس فيه الدول والمجتمعات بقيمة ما تنتجه لا ببراعة خطابتها وبكائها على المنابر..
التعليقات