4 يوليو 2025 / 22:39

قراءة معرفية في خطبة “تسديد التبليغ” (1)

محمد زاوي
جاءت خطبة اليوم، الجمعة 4 يوليوز 2025، بعنوان “الحرص على أكل الحلال سجية للمسلم”، وقد بُنيت على أصول في الشريعة، منها قوله تعالى: “واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروهم” (سورة البقرة، الآية 233)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي” (سنن أبي داود).

إن مراقبة النفس بداية ونهاية، قبل العمل وبعد الفراغ منه، كفيلة بحفظ الرزق من دخول الحرام عليه. في نفس المؤمن نموذج خاص من التحري يمنع الحرام في كافة مناحي الحياة، بما فيها مجال الأموال. في نفسه رقابة ذاتية مستمرة لا تفارقه، تربط دنياه بآخرته فيحيا حياة طيبة يتحقق بها نفعه ونفع البلاد والعباد.

ومن نصوص الخطبة والتي لا تخلو من أهمية ومن علاقة بما ذكرناة آنفا، قول صاحب الخطبة: “وعلى هذا الأساس يعمل التاجر في ماله تدينا وقربة، ويعلم الأستاذ أبناء الأمة تدينا وقربة، ويعالج الطبيب المرضى تدينا وقربة، ويحرس رجل الأمن ثغره تدينا وقربة، وينصح الموظف في وظيفته تدينا وقربة، ويحترم السائق قوانين السير تدينا وقربة، ويحترم الجميع القوانين المنظمة للحياة تدينا وقربة، ويقوم كل فرد من أفراد المجتمع بمسؤوليته تدينا وقربة”.

إن القربات أشمل وأكبر من حدود ضيقة ترسمها بعض الاختيارات الفكرية على العمل فلا تقبل به إلا في اتجاه واحد هو ذلك الذي يصب في مصلحة خطابها أو ممارستها الفئوية. القربات عمل جماعي، عمل الجماعة-الأمة، تستفيد منه كل الأمة، أي كل الوطن. القربات تأسيس فردي لمصلحة الجماعة وحسب اجتهاد الجماعة (الوطن)، لا لمصلحة “الفئة” بتعبير د. مصطفى بن حمزة في كتابه “السلفية الجامعة: من سلفية الفئة إلى سلفية الأمة”.

الرقابة على القربات بهذا المعنى، هي في نهاية المطاف رقابة على عمل الأفراد في خدمة الجماعة-الأمة. إنه استثمار لإخلاص التاجر والأستاذ والطبيب ورجل الأمن والموظف والسائق وكافة المواطنين؛ إنه استثمار لإخلاص هؤلاء جميعا جلبا لمصالحهم ومصالح الأمة جمعاء.

لقد كان لهذا النوع من الوازع دور كبير في تجارب أخرى، كما هو حال البروتستانتية والكالفينية في أوروبا في سياق تطوير قوى الإنتاج الرأسمالية. فكان لوصايا كالفن الداعية للإخلاص في العمل دور كبير في تقدم الإنتاج الرأسمالي (راجع “مفهوم الإيديولوجيا” لعبد الله العروي)، وهو تقدم حمال وجهين في حقيقته وجوهره الاجتماعي: استغلال في المصانع، وتطوير لقوى إنتاج المجتمع ككل.

نفس التفسير أشار إليه ماكس فيبر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسماية”، إذ كان لهذه الأخلاق تأثير على وتيرة تقدم الإنتاج الرأسمالي، وهو عينه ما أسفر عن تفاوت بين البلدان البروتستانتية والكاثوليكية من حيث الإنتاج. وهو عينه ما أشار إليه المفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه “مسؤولية المثقف”.

الخطاب موجَّه للإنسان المغربي باعتباره رأسمالا بشريا؛ هذا الرأسمال البشري الذي غدت تحول بينه وبين التفاني في عملية الإنتاج حوائل عديدة: مفاسد العولمة، ومفاسد هي من صميم التراكم الاجتماعي، ومفاسد الإيديولوجيات العدمية واللاوطنية، ومفاسد التأويلات الفئوية للشريعة، ومفاسد تراجع خطاب التخليق والتزكية لفائدة خطابات بلا وِجد ولا روح، الخ.

هناك فراغ يجب أن تملأه الدولة بالدين، ملأته إيديولوجيات شتى لكنها نزعت منزع توظيفه لمصالح غير منضبطة في “واقعها الملموس”. فلما تراجع خطاب هذه الإيديولوجيات بتراجع مواقعها، أصبح لزاما على الدولة استعادة المبادرة وممارسة خطاب “التزكية” بما يخدم مصلحة الجماعة-الوطن.