هشام الهواري ـ طالب باحث في سلك الماستر
نلتقي في هذا الكتاب (الأزمة الفكرية المعاصرة تشخيص ومقترحات علاج)، مع فضيلة الدكتور طه جابر العلواني ، رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي. شارك في تأسيسه بالولايات المتحدة سنة 1401ه/1981م، وعضو مجلس أمنائه، وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، ورئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية .
ولد بالعراق سنة 1354ه/1935م، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي فيها. حصل على الشهادة العالمية من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر سنة 1378ه/1959م. وحصل على الماجستير من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر سنة 1388ه/1968م، وعلى شهادة الدكتوراه في أصول الفقه من جامعة الأزهر سنة 1392ه/1973م.
عمل أستاذًا للفقه وأصوله في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامي بالرياض، من سنة 1395 إلى 1405 ه، الموافق ل 1975 ـ 1985 م.
حقق كتاب (المحصول في علم أصول الفقه) للإمام فخر الدين الرازي في ستة مجلدات . وله عدة مؤلفات وأبحاث أخرى في الفقه وأصوله منها:
الاجتهاد والتقليد في الإسلام.
أدب الاختلاف في الإسلام.
أصول الفقه الإسلامي : منهج بحث ومعرفة.
OUline of a cultural strategy
The Qur’an and the sunnah : Time – Space Factor
يتحدث الدكتور طه جابر العلواني في هذا الكتاب عن أهم القضايا الفكرية والمنهجية التي يتعرض لها المجتمع الإسلامي، ويوضح الرؤية النهجية المعرفية السليمة التي ينبغي أن يكون عليها فكرنا الإسلامي، محررًا معناها، وموضحا مبناها، مقترحا الحلول المناسبة لعلاج هذه الأزمة.
وبذلك أزال كثيرًا من الأفهام المغلوطة، وبين أن الإسلام دعوة عالمية، يخاطب العقل الانساني، والوجداني البشري في كل زمان ومكان، ولا يمكن أن يفهم، ولا أن يتم تفعيله إلا بهذه الرؤية المنهجية التي ينبغي أن يقبلها كل منصف ومفكر يسعى إلى الحق والحقيقة ، للخروج من الأزمة الفكرية في عالم اليوم، سواء عند المسلمين أو عند غيرهم .
تمهيد :
يشهد العالم الإسلامي منذ أوائل القرن الثامن عشر الميلادي ، عملية استلاب فكري وثقافي ، نجم عنه انمحاء الشخصية الإسلامية وانهيار المقومات العقلية والنفسية عند الإنسان المسلم ، ما سمح للغرب أن يطور وسائله في توصيل المعرفة وبناء فلسفتها ومعاجلة قضاياها وموضوعاتها . وبالرغم من ذلك يبقى تصنيفهم وزعمهم بأن قيم الخير والجمال تنبثق عن العقل وحده زعمًا خاطئًا ، حيث إن مصدر سائر القيم عندنا أمران مترابطان دون فاصل بينهما ( الوحي والوجود ) ؛ فهما مصدرين متلازمين لا يفترقان ، وفي حالة افتراقهما فالمصير هو خراب هذه القيم .
إن الشباب المسلم الذين يدرسون في الجامعات الغربية يواجهون مشكلة في منهج التدريس ، وخاصة في مجال العلوم الاجتماعية التي تقتصر عن الإنسان وعلاقاته وتهمل الوحي ، ما أدى إلى نشوب نقص وتناقض في الأطروحات الغربية ، وكان في نقلها إلى العالم الإسلامي اضطراب وقلق ، وإن كان تقدم الغرب قد أدى إلى تغطية بعض عيوب وقصور هذه العلوم في المجال الاجتماعي والإنساني ، وقد ساعد على هذا تخلف العالم الإسلامي . يقول الدكتور طه جابر العلواني : ( منذ أواسط القرن الثامن عشر الميلادي ، والعالم الإسلامي كله مقتلع النوافذ والأبواب في وجه الفكر الغربي ، والمنهج الغربي ، والثقافة الغربية ، والعلم الغربي ، والحضارة الغربية ، والفنون والآداب والأذواق والتقاليد الغربية بدرجات متفاوتة . فمنذ أن بدأ الغربيون ينشؤون كنائسهم التنصيرية وبجوارها مدارسهم التعليمية في كثير من حواضر المسلمين ، والحصون الفكرية والثقافية التي كانت متبقية لدى هذه الأمة كانت تتهاوى واحدًا بعد الآخر ، والأجيال المسلمة تتعرض لعملية استلاب فكري وثقافي هائل ، انتهت بأن أصبحت جميع معارفنا النظرية غربية مائة بالمائة ، أو موضوعة في قالب وإطار غربيين ، شمل ذلك الفكر والمنهج والمصدر والفلسفة المعرفية وموضوعاتها وأهدافها وغاياتها وكل ما له علاقة بها من قريب أو بعيد ..) (1).
حاجتنا إلى الفكر:
إن التعرف على هذه المراحل يحيلنا إلى استيعاب ما نحن في حاجة إليه الآن بعد أن تجاوزنا المراحل الحرجة ، وانتقلنا إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة تحدٍ إما أن نثبت لأمتنا أننا قادرين على تقديم فكر سليم وثقافة صحيحة وحضارة قوية ، وأننا قادرين على السير بالأمة إلى الرقي ، وإما أن نعلن عجزنا.
الحل الأمثل والوسيلة الفعالة لإثبات صحة كلامنا هو تقديم بديل إسلامي ناجح ومتفوق في كل الجوانب ؛ الفكر والثقافة والمعرفة والحضارة وغيرها … ، ونجسدها ونصيح بعودتنا من جديد . يقول الدكتور طه جابر العلواني : ( الوسيلة الوحيدة لإثبات صحة ما ندعو إليه هي في تقديم البديل الإسلامي لكل ما قدمه الغرب وتجربة هذا البديل ونجاحه .. ولكننا نزعم أن نقطة البداية وحجز الزاوية في طريق الإصلاح ينبغي أن تبدأ من قضايا الفكر، وقضايا المنهج ، وقضايا المعرفة والثقافة ، وقضايا البديل الحضاري)(2).
مفهوم الفكر:
يقولون اللغويون فكّر يُفكّر تفكيراً ، ويمكن أن تأتي من باب (ضرب) ويجوز أن يقال (أفكرته) مثلاً (ذكرته) ، والفكر هو للأمور المعنوية ، فهذه الكلمة هي جزء من بنائنا اللغوي له جذوره ومعناه .
فالفكر خاصة من خواص الإنسان وبهذا تخرج باقي الكائنات الأخرى ، فقد اهتم علماؤنا بتفسير الفكر وتعريفه ، وتكلموا كثيراً في هذا الأمر خاصةً منذ القرن الثالث الهجري حيث وجدت مراجع مهمة تتحدث عن الفكر ومواصفاته وشروطه.
” ونلجأ مباشرة بعد اللغة إلى مصدرنا الأساسي الذي لا ينبغي أن نزيغ عنه وهو كتاب الله . في كتاب الله لم ترد مادة فكر (ف ك ر) بصيغة الاسم ، أي لا نجد مثلًا في القرآن الكريم فكر كاسم أو مصدر ، ولا نجدها معرفة بلام ولا منكرة ، فقد وردت في القرآن الكريم في عشرين موضعًا بصيغة الماضي .. وبصيغة المضارع . ﴿ إنه فكر وقدر ﴾ ، ﴿ لعلهم يتفكرون ﴾ .. فحينما نقول فكّر أو يفكّر أو تفكّر فهي كلمة تدل على حدث هو الفكر ، وتدل على الذات الفاعلة لهذا الحدث التي نسميها بالمفكر . فحينما تستخدم في القرآن الكريم بهذه الطريقة فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا إلى أن هذا العمل الذهني الذي يسمى بالفكر إنما هو عمل مرتبط بالذات ، فلا يمكن أن يتجرد الفكر عن المفكر . فكلما وجد فكر وجد مفكر ، وأن الفكر لا ينبغي أن يكون شيئًا فيما لا طائل تحته وفيما لا عمل أو حركة في هذا الكون تبنى عليه (3).
إن الناظر في القرآن الكريم يجده قد ربط الفكر بالحركة لينبهنا إلى أن الفكر من أجل الفكر لا يؤدي إلى أي نفع سواء دنوي أو أخروي ، فلا بد أن نفكر لنصل إلى شيء نافع فيه مصلحة . وللأقدمين كلام طويل حيث تناولوه من عدة جوانب .
يقول الدكتور طه جابر العلواني : ” ولكني أستطيع أن أقول إنني خرجتُ من خلال دراستي لما ورد في هذه المصادر ( بأن الفكر اسم لعملية تردد القوى العاقلة المفكرة في الإنسان ، سواء أكان قلباً أو روحاً أو ذهناً بالنظر والتدبر ، لطلب المعاني المجهولة من الأمور المعلومة ، أو الوصول إلى الأحكام أو النسب بين الأشياء) “(4).
مفهوم المعرفة:
اختلفت مصادر المعرفة بين الماضي والحاضر ، فبعد أن كان الوحي والوجود هما المصدران الأساسيان ، فقد أصبحا اليوم يتحددان في الوجود وحده لدى المعرفة المعاصرة ، لذلك فتعريفهما عند علماء التربية والمعرفة اليوم والمعترف به لدى (اليونسكو) وسائر المؤسسات الثقافية (المعرفة كل معلوم خضع للحس والتجربة) ، فكل ما يتعلق بالله والآخرة والأنبياء لا يعتبر من العلم ، فأصبحوا يلحقونها بالخرافة والأساطير وبأي شيء لا يعتبرونها معلومة .
ونحن كمسلمين حين نطالب بالبديل لهذا التعريف نستطيع أن نقول : ( المعرفة كل معلوم دل عليه الوحي ، والحس ، والتجربة ) (5)، وهذا تعريف إسلامي ، ولا يمكن أن أقبل التعريف الذي تسير عليه المدارس اليوم باعتباره تعريفاً يتسم بالقصور . ولا يمكن ذلك ما دام لدينا البديل الشافي الكافي الذي يتصف بالكمال ، الذي جاءنا بطريق علمي وبتحدي وإعجاز . فالقرآن الكريم أعجز البشرية جمعاء ، ونحن كمسلمين نخلص إلى أن المعرفة هي كل معلوم دل عليه الوحي ، والحس (العقل) ، والتجربة.
بعض القضايا الفكرية:
من حكمة الله عز وجل في هذا الوجود أنه لا شيء يحدث بدون أسباب ، فإذا أراد الإنسان أن يصل إلى نتيجة وجب عليه الأخذ بالأسباب (مقدمات) ، بمعنى أن هناك سنن ونواميس إلهية بمثابة قوانين لا يمكن خرقها إلا بمشيئة الله جلّ وعلى ، وهذه هي عقيدة الإنسان المسلم .
فالحياة قائمة على قوانين وسنن ، هي التي تسمى : بالسنن الكونية ، أو السنن التاريخية ، أو السنن الشرعية . إذا أخذ بها الإنسان واتبعها وتفاعل معها بشكل إيجابي لن يصيبه أذى ، وإذا لم يتبعها أو يتفاعل معها فسيصيبه الأذى .
لكن في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجري بعد مرحلة الترجمة والاحتكاك بالفلسفات اليونانية والتراث العالمي ، أصبحت القضية تسلك منحى آخر ، بقولهم أن وجود السبب فيه معنى الشرك باعتباره هو المؤثر ، فبوجود مؤثر غير الله سبحانه وتعالى أصبح ذلك شركاً .
نجيبهم فنقول أن العلة والسبب الوحيد في الكون هو الله سبحانه وتعالى ، وقد أثرت هذه الفكرة بشكل سلبي على الأجيال المسلمة بعد ذلك وكان لها أثر خطير ، إلى أن حل الأشاعرة المشكلة بأن قالوا : العلة هي المحرك للسبب وليست السبب . هذا النقاش السخيف أخذ من العقل المسلم قرابة ثلاثة قرون إلى أن تم الوصول إلى حل وسط ، وهو أن الله عز وجل وضع سننًا وعللاً وأسباباً ومقومات وجعل لها نتائج ، ولا أحد يستطيع إنكار هذا .
عند إجراء دراسة للتأثير التربوي على العقل المسلم ، نجد الإنسان المسلم في حيرة وتناقض ، ما أدى به إلى العجز والاختيار بين أمرين إما أن يناقش الموضوع ويحاول أن يغيره فينسب إلى الكفر أو البدعة وإما أن يسكت ويكون إنساناً لا منهجاً ولا علماً ولا يستطيع أن يربط بين مسبب وسبب ولا بين نتيجة ومقدمات ، فإذاً هذه قضية أيضاً من القضايا الهامة .
أضف إلى ذلك قضية الصراع المفتعل بين النص والعقل ، فتاريخنا لم يعرف قضية بهذا الاسم إلا بعد عصر الترجمة ، حيث تسربت إلى المجال التداولي الإسلامي جملة من الأفكار التي أثرت بشكل سلبي على الأمة .
والصواب أنه لا تعارض ولا تقاطع بين العقل والسمع ، فهما يسيران جنبًا إلى جنب خاضعين لحاكمية الله المطلقة . لأن العقل المستقل عن الوحي عاجز عن معرفة الشؤون الإلهية وما هو إلا أداة أو وسيلة لفهم الوحي الإلهي المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، فالنص يرشد العقل ويوجهه ، والعقل يتفهم النص ويستوعبه ويحسن تطبيقه وفهمه دون أي صراع أو تعارض بينهما .
وكذلك قضية التقليد والاجتهاد ، فهي قضية حادة تطرح في كل زمان ومكان ( الاجتهاد والمذهبية ، وسد باب الاجتهاد وغير ذلك … ) ، إنها قضية تحتاج إلى معالجة لأنها أثّرت بشكل خطير على المجال التربوي لحياة الأمة . فقضية التقليد كانت قضية خطيرة وأزمة من أزمات العقل الحادّة ، تحولت من أمر أريد به الاحتياط إلى أمر عادي له آثاره النفسية والتربوية في الأمة .
إنني أعتبر أن حقيقة تحول الأمة إلى تابع متحكّم فيها وفي شؤونها هو مثل هذه القضايا ، ناهيكم عن بعض الأفكار التي كان لها الأثر البليغ في ضعفها ووهنها . يقول الدكتور طه جابر العلواني : ( هذا الفكر الميت الذي لا يستند إلى شيء من كتاب الله ولا إلى شيء من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا الفكر الذي نجم عن مثل هذه العمليات ، لا بد من معالجته)(6).
إصلاح الفكر الإسلامي:
إن الفكر الذي لا علاقة له لا بكتاب الله ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، هو فكر فاسد ينجم عنه مثل هذه العمليات ، لهذا يجب معالجته ، والمعالجة يجب أن تكون بعمليات جراحية.
إن من أهم شروط تحقيق الفاعلية والتأثير في أي نشاط إسلامي ، فهم المسلم المخاطب لمحتوى الخطاب لديه وطبيعته فهمًا دقيقًا)(7).
إن الأزمة الفكرية التي نعيشها حقيقة موجودة ، ولكن أكثرها تأثيراً هي الموجودة في جانب المصادر والمناهج ، باعتباره من القضايا الأساسية التاريخية التي نتجت عنها آثار سلبية على عدة مستويات ( عقلي ، نفسي ، فكري ، منهجي … ) ، ما كان له الأثر البليغ على إحباط محاولات الإصلاح الكثيرة جداً ، إذ كانت في غالب الأحيان تأتي هذه القضايا في وسط الطريق وتحبط أيّة حركة إصلاحية ، فبهذا نجد أنفسنا أمام قضية الفكر بالذّات . فنحن بحاجة إلى وضع مناهج للفكر السليم لا تبتّ بصلة للشخصية الفكرية الغربية أو سيطرتها . فلنا شخصيتنا المميزة في هذا المجال، ذلك إلى جانب قضايا مشتركة بيننا وبين بقية البشر ، لابد من تحديدها دون أن نغفل عن القضايا ذات الطبيعة الخاصة ، مثل العلوم والقضايا المتعلقة بموضوعات العلوم الطبيعية وظواهرها .. فهي من قبيل الفكر المشترك ، فمناهجنا ذات طابعٍ علمي قائم على التجربة الملموسة بالحياة المادية ، فالحياة لا تختلف والوظائف مشتركة وقدراتها كذلك ، فالحقائق المادية مثل الدليل التجريبي الحسي ، والتجارب لا تختلف ، فمن الممكن أن يقوم بها هذا الإنسان وذاك ، ولا يعتريها أي تغير بتغاير القوميات والأديان والحضارات والمذاهب . فعلوم الكون واحدة مشتركة ، وبالتالي يمكن الاستفادة من كل ما توصلت إليه البشرية في هذا المجال ، من كل المدارس القائمة ، ومن نتائج بحوثها وتحليلاتها . فموضوعاتها المادية وظواهرها لا تتغير باختلاف الأفكار والأديان والحضارات ، ولكن تختلف مناهجها وحقائقها وقوانينها باختلاف الأديان . كما يلحق بهذه المنظومة في حقائق العلوم الطبيعية الخاصة بدراسة المادة وظواهرها ، رغم اختلاف غاياتنا ومقاصدنا كمسلمين عن غايات ومقاصد الآخرين ، لكن التجارب الإنسانية في مجال النظم والوسائل وغير ذلك .. كثيراً ما تكون صالحة ممكنة الاقتباس والاستفادة من التطور والتمثل والاستلهام .
يقول الدكتور طه جابر العلواني : ( نحن نريد أن نقول نعم لكل هذا ، ولكن لدينا قضايا أخرى هي القضايا التي عرفت بالعلوم الإنسانية والاجتماعية ، القرآن الكريم تناولها وبحثها ووجه إليها ، ولا بد أن نكتشف هداية القرآن الكريم في هذه المجالات . علم النفس .. علم الاجتماع .. ، هذه الأمور تعرض لها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .. يجب أن نعيد قراءة القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية المطهرة ونقوم بعملية تصنيفها وتوزيعها على قضايا العلوم الإنسانية والاجتماعية . لنكتشف توجيهاتها وأحكامها…)(8).
لذلك فالمطلوب اليوم أن نوجّه هذه العلوم وجهة إسلامية في أهدافها وغاياتها ومقاصدها ، فنحن نريد أن نحقق تقدمًا في الأرض ومحاربة الفساد على عكس الحضارة المعاصرة التي حققت تقدمًا لإرادة العلوِّ في الأرض . لهذا ينبغي على المؤسسات أن تقتبس النافع من هذه العلوم ووضعه وحفظه بإطار إسلامي .
لكن توجد قضايا أخطر بكثير ، وهي ما يسميها الغرب بالعلوم الإنسانية والاجتماعية ، هذه العلوم تعنى بالإنسان كموضوع وهدف ، وتختلف المدارس والأديان والحضارات فيها ، فكل دين ومذهب وحضارة له فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان ، وفكرته الكلية عن الإنسان وغاية وجوده وطبقة هذا الوجود وأخلاقه وغير ذلك ، كل هذه الأمور هي الموضوعات التي تتناوله العلوم الإنسانية والاجتماعية ، فهذه العلوم تتمايز فيها الأديان والحضارات .
وإننا كمسلمين لا نجد أي إشكال في التوفيق بين الفكر الطبي أو الهندسي وبين وسائلنا ، بل نجد إشكالات كبيرة وخطيرة حينما يدرس الفلسفة الغربية التي تعدّى فيها الإنسان حدوده فأقول ؛ أشمئز حين أسمع أو أقرأ عنها كجعلهم الإنسان إلهاً في هذا الوجود ، وجعل الله سبحانه وتعالى دون مرتبة الإنسان أو اعتبارهم أن قيم الجمال كلها تتجلى في العري . أنا أشمئز من هذا ، لأنني إنسان مسلم ابن حضارة عرفت الستر. والعري عندي لم يكن أمرًا مقصوداً ، بل هو إهانة للإنسان ، لهذا فأنا أنفر من كل هذه الفنون التي لا تتناسب وحضارتي الإسلامية ، لذلك يجب أن تكون الفلسفة والعلوم الاجتماعية والفنون والآداب والعلوم الإنسانية من قبيل الصناعات المحلية ، من خلال منظور إسلامي صحيح مستمد من فلسفته الكلية الشمولية ، ونظرته إلى الدين والحياة والإنسان والمجتمع والتاريخ .
وفي هذا المجال سننتقل إلى قضية المعرفة ، فهذه العلوم تستهدف الإنسان فرداً ومجتمعاً ودولةً وثقافةً ، والإنسان ونفسيته وعقليته ، فكل منها يخدم جانباً من هذه الجوانب ، فأقول ما يجب علينا هو تغيير نمط التفكير والقضاء على خرافة أن القرآن الكريم والسنة النبوية مصدران للحكم الشرعي فقط ) حلال أو حرام( . هذه قضية خطيرة أصابت العقل المسلم في وقت مبكر، فأدّت به إلى إلغاء شقٍّ كبير من آيات القرآن الكريم ويتثبت بجملة آيات محدودة .
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة دستور حياتنا وعمدت ملتنا ، لا مصدرين للأحكام فقط ، وإنما مصادر للثقافة والفكر والمعرفة والحضارة … ، يرجع إليها كل مسلم ، ولا يمر يوم على مسلم مهما كان تخصصه إلا ويتعامل مع آية أو حديث ، من أجل أن نفعل ما يلي :
يجب أن نعيد قراءة القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية ، وأن نضع منهاجًا للتعامل مع الكتاب والسنة في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية لنعرف من خلالها كيفية التواصل واستخدام الكتاب والسنة في هذه المجالات .
الانطلاق من مصادر المعرفة في تكاملها ؛ الوحي والعقل والواقع ، حيث يتكامل عالم الغيب وعالم الشهادة ، وتتكامل المادة مع الروح ، وحيث يقترن العلم بالعمل ، وتقرأ آيات الكون كما تقرأ آيات النص ، ويتكامل العقل والنقل ، فلا تطغى نزعة نصية على أخرى عقلية ، ولا هذه على تلك .
فتراثنا الإسلامي حافل بالعلوم القيمة في مجالات وقضايا هذه العلوم الإنسانية والاجتماعية ، لأن بيننا إخوة توجهوا وتخصصوا في التربية والإعلام وعلم النفس …، والكثير منا يجهل عطاء العلماء المسلمين في هذا المجال لأن الجامعات الغربية تخفي هذه الأمور وتُناقضها حتى يستحوذوا على أبناء أمتنا في كل منطلقاتهم ومناهجهم وإخضاعهم إلى التعامل من خلال المفهوم الغربي والفلسفة الغربية . فالمطلوب أن تعطى أهمية كبيرة لما لدينا في التراث الإسلامي وتصنيفه ودراسة ما فيه من خلال إنشاء مشاريع ليتيسر اطلاع المتخصصين في هذه المجالات .
لا بد من دراسة التراث المعاصر دراسة ناقدة فاحصة ، مزوَّدين بما في تراثنا من رؤية في هذه المجالات ، لنتمكن من غربلتها والتمييز بين صالحها وطالحها ، ونأخذ النافع منها ونذر الضار ، ومن أجل الوصول إلى الهدف . وفي هذا لابد من وضع تخطيط ممنهج في التعامل ، فالحكة ضالة المسلم أنا وجدها فهو أحق بها ، ( رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة ) .
أن تبنى هذه المناهج على خصائص التوحيد والعالمية والوسطية والاعتدال ، بما ينفي عنها كل أشكال الغلو والتحيز والتشدد والانغلاق ، وغيرها من الخصائص السلبية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طه جابر العلواني ، الأزمة الفكرية المعاصرة تشخيص ومقترحات علاج ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، الدار العالمية للكتاب الإسلامي ، ط : 4 ـ 1414 هـ / 1994 م ، ص : 13 .
(2) طه جابر العلواني ، الأزمة الفكرية المعاصرة ، ص : 23 ـ 25 . بتصرف .
(3) نفسه ، ص : 26 .
(4) نفسه ، ص : 27 .
(5) الأزمة الفكرية المعاصرة ، ص : 33 .
(6) الأزمة الفكرية المعاصرة ، ص : 40 .
(7) طه جابر العلواني ، إصلاح الفكر الإسلامي ، دار الهادي ـ بيروت ـ لبنان ، ط : 1 ـ 1421 ه ـ / 2001 م ، ص 13 .
(8) الأزمة الفكرية المعاصرة ، ص : 45 ـ 46 .
المصدر : https://dinpresse.net/?p=6951