محمد ابن الأزرق الأنجري
يشيع محرّمو “المولد” أنه بدعة فاطمية شيعية دون حجة أو سند من التاريخ ( ولا عيب في ذلك لو صح ) ، بينما يصرّح علماؤنا ومؤرخونا أن ظهور هذه السنة الحسنة بالمشرق الإسلامي كان على يد السلطان مظفر الدين صاحب إربل، وأن شيوعها في المغرب الإسلامي كان بقرار رسمي من الإمام أبي العباس العزفي أمير سبتة.
ومن عجائب قدر الله أن الرجلين كانا متعاصرين، أي أن انتشار تلك السنة الحميدة بدأ في المشرق والمغرب في وقت متزامن دون أن يقتدي أحدهما بالآخر.
ومن غرائب حكمة الله أن يكون أول كتابين مؤلفين لإثبات مشروعية المولد من تصنيف إمامين مغربيين سبتيين متعاصرين متقاربين في تاريخ الوفاة.
أما الأول فهو الحافظ أبو الخطاب ابن دحية صاحب “التنوير في مولد البشير النذير”، والذي كتبه للسلطان مظفر الدين سنة 604 هـ أو بعدها بقليل.
والثاني من تصنيف أبي العباس العزفي أمير سبتة.
فحق لأهل المغرب عامة، ولأهل سبتة الأنجرية خاصة، أن يفخروا بأن علماء الأمة عالة على رجلين مغربيين سبتيين في مسألة المولد العظيم.
والسؤال الآن: هل كان الأميران مظفر الدين وأبو العباس العزفي من أهل العلم والصلاح والسنة والجماعة؟ أم كانا مبتدعين منحرفين خرافيين كما يظن أولو التعصب والشناعة؟
أولا: ترجمة الأمير مظفر الدين صاحب إربل المولود سنة 549 هـ المتوفى عام 630 هـ:
هو السلطان المعظم كوكبوري بن عليّ بن بكتكين، مُظَفَّر الدِّين، أبو سعيد التّركمانيّ، صهر السلطان صلاح الدين الأيوبي ومساعده في نصر وقعة حطّين الشهيرة.
عاصره القاضي ابن خلكان وجالسه وحضر احتفاله بالمولد المعظم، وخصّه بترجمة جليلة في كتابه العظيم: “وفيات الأعيان”، فقال فيه رحمهما الله: وشهد مظفر الدين مع صلاح الدين مواقف كثيرة وأبان فيها عن نجدة وقوة نفس وعزيمة، وثبت في مواضع لم يثبت فيها غيره … ولو لم يكن له إلا وقعة حطين لكفته، فإنه وقف هو وتقي الدين صاحب حماة – المقدم ذكره – وانكسر العسكر بأسره، ثم لما سمعوا بوقوفهما تراجعوا حتى كانت النصرة للمسلمين، وفتح الله سبحانه عليهم.
وأما سيرته الذاتية، فلقد كان له في فعل الخيرات غرائب لم يسمع أن أحدا فعل في ذلك ما فعله، لم يكن في الدنيا شيء أحب إليه من الصدقة، كان له كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج… وكان قد بنى أربع خانقاهات للزمنى والعميان وملأها من هذين الصنفين، وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم، وكان يأتيهم بنفسه… وبنى دارا للنساء الأرامل، ودارا للصغار الأيتام، ودارا للملاقيط رتب بهم جماعة من المراضع… وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه، وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه أو فقير أو غيرهما… وبنى مدرسة رتب فيها فقهاء الفريقين من الشافعية والحنفية، وكان كل وقت يأتيها بنفسه، ويعمل السماط بها ويبيت بها ويعمل السماع… ولم يكن له لذة سوى السماع، فإنه كان لا يتعاطى المنكر، ولا يمكن من إدخاله إلى البلد، وبنى للصوفية خانقاهين فيهما خلق كثير من المقيمين والواردين… وكان ينزل بنفسه إليهم ويعمل عندهم السماعات في كثير من الأوقات. وكان يسيّر في كل سنة دفعتين جماعة من أمنائه إلى بلاد الساحل ومعهم جملة مستكثرة من الناس يفتكّ بها أسرى المسلمين من أيدي الكفار… وكان يقيم في كل سنة سبيلا للحاج، ويسيّر معه جميع ما تدعو حاجة المسافر إليه… وله بمكة حرسها الله تعالى، آثار جميلة وبعضها باق إلى الآن، وهو أول من أجرى الماء إلى جبل عرفات ليلة الوقوف، وغرم عليه جملة كثيرة، وعمر بالجبل مصانع للماء، فإن الحجاج كانوا يتضررون من عدم الماء… وكان رحمه الله متى أكل شيئا استطابه لا يختص به، بل إذا أكل من زبدية لقمة طيبة قال لبعض الجنادرة: احمل هذا إلى الشيخ فلان أو فلانة ممن هم عنده مشهورون بالصلاح، وكذلك يعمل في الفاكهة والحلوى وغير ذلك من المطاعم. وكان كريم الأخلاق كثير التواضع حسن العقيدة سالم البطانة شديد الميل إلى أهل السنة والجماعة لا ينفق عنده من أرباب العلوم سوى الفقهاء والمحدثين ومن عداهما لا يعطيه شيئا إلا تكلفا، وكذلك الشعراء لا يقول بهم ولا يعطيهم إلا إذا قصدوه، فما كان يضيع قصدهم ولا يخيب أمل من يطلب بره، وكان يميل إلى علم التاريخ، وعلى خاطره منه شيء يذاكر به، ولم يزل، رحمه الله تعالى، مؤيدا في مواقفه ومصافاته مع كثرتها، لم ينقل أنه انكسر في مصاف قط، ولو استقصيت في تعداد محاسنه لطال الكتاب، وفي شهرة معروفه غنية عن الإطالة، وليعذر الواقف على هذه الترجمة ففيها تطويل، ولم يكن سببه إلا ما له علينا من الحقوق التي لا نقدر على القيام بشكر بعضها، ولو عملنا مهما عملناه، وشكر المنعم واجب، فجزاه الله عنا أحسن الجزاء، فكم له علينا من الأيادي، ولأسلافه على أسلافنا من الإنعام، والإنسان صنيعة الإحسان، ومع الاعتراف بجميله فلم أذكر عنه شيئا على سبيل المبالغة، بل كل ما ذكرته عن مشاهدة وعيان، وربما حذفت بعضه طلبا للإيجاز.
وقال عنه جمال الدين ابن واصل (ت697 هـ) في كتاب “مفرج الكروب في أخبار بني أيوب”: كان مقصدا للفقهاء والشعراء والأدباء والصوفية وأهل الدين، يبّرهم بالأموال الجزيلة، ولا ينصرفون من عنده إلا راضين شاكرين. وكان يعمل السماعات كثيرا للفقراء ويحضر بينهم، وكان متنزها عن شرب الخمر والمعاصي، قائما بوظائف الصلوات في أوقاتها. هـ
وفي البداية لابن كثير: أَحَدُ الْأَجْوَادِ وَالسَّادَاتِ الْكُبَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الْأَمْجَادِ، لَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ… وَكَانَ يَعْمَلُ المولد الشريف في رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا، وَكَانَ مع ذلك شهماً شجاعاً فاتكاً بطلاً عاقلاً عالماً عادلاً رحمه الله وأكرم مثواه. هـ
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي: السُّلْطَانُ الدَّيِّنُ المَلِك المُعَظَّمُ مُظَفَّر الدِّيْنِ أَبُو سَعِيْدٍ كُوْكْبُرِي. هـ
قلت: ابن كثير والذهبي إمامان سلفيان تلميذان لشيخ الإسلام ابن تيمية، ويمتدحان السلطان المظفر دون اعتراض على احتفاله العظيم بمولد النبي الرؤوف الرحيم، فافهم أيها المنكر لما يغيظ الشيطان الرجيم.
وبالجملة، فترجمة السلطان تدل على أننا أمام رجل يصلح أن يعدّ من الخلفاء الراشدين المهديين لولا أنه كان أميرا على ناحية وخاضعا للملك العباسي.
وصف ابن خلكان لاحتفال السلطان كوكبوري بالمولد الأعظم:
قال: وأما احتفاله بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الوصف يقصر عن الإحاطة به، لكن نذكر طرفا منه، وهو أن أهل البلاد كانوا قد سمعوا بحسن اعتقاده فيه، فكان في كل سنة يصل إليه من البلاد القريبة من إربل – مثل بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي – خلق كثير من الفقهاء والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء، ولا يزالون يتواصلون من المحرّم إلى أوائل شهر ربيع الأول، ويتقدم مظفر الدين بنصب قباب من الخشب كل قبة أربع أو خمس طبقات، ويعمل مقدار عشرين قبة وأكثر، منها قبة له، والباقي للأمراء وأعيان دولته لكل واحد قبة، فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المستجملة، وقعد في كل قبة جوق من المغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطباق في كل قبة حتى رتبوا فيها جوقا، وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم، وكانت القباب منصوبة من باب القلعة إلى باب الخانقاه المجاورة للميدان، فكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر ويقف على قبة قبة إلى آخرها، ويسمع غناءهم، ويتفرج على خيالاتهم وما يفعلونه في القباب، ويبيت في الخانقاه ويعمل السماع ويركب عقيب صلاة الصبح يتصيّد، ثم يرجع إلى القلعة قبل الظهر، هكذا يعمل كل يوم إلى ليلة المولد، وكان يعمله سنة في ثامن الشهر، وسنة في الثاني عشر، لأجل الاختلاف الذي فيه، فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئا كثيرا زائدا عن الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والمغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها، وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة.
فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة، ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع – أشك في ذلك – من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل، ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل حتى ينتهي إلى الخانقاه، فإذا كان صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية، على يد كل شخص منهم بقجة، وهو متتابعون كل واحد وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده، ثم ينزل إلى الخانقاه وتجتمع الأعيان والرؤساء وطائفة كبيرة من بياض الناس، وينصب كرسي للوعاظ، وقد نصب لمظفر الدين برج خشب له شبابيك إلى الموضع الذي فيه الناس والكرسي، وشبابيك أخر للبرج أيضا إلى الميدان، وهو ميدان كبير في غاية الاتساع، ويجتمع فيه الجند ويعرضهم ذلك النهار، وهو تارة ينظر إلى عرض الجند وتارة إلى الناس والوعاظ، ولا يزال كذلك حتى يفرغ الجند من عرضهم، فعند ذلك يقدم السماط في الميدان للصعاليك، ويكون سماطا عاما فيه من الطعام والخبز شيء كثير لا يحد ولا يوصف، ويمد سماطا ثانيا في الخانقاه للناس المجتمعين عند الكرسي، وفي مدة العرض ووعظ الوعاظ يطلب واحدا واحدا من الأعيان والرؤساء والوافدين لأجل هذا الموسم ممن قدمنا ذكره من الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء، ويخلع على كل واحد ثم يعود إلى مكانه، فإذا تكامل ذلك كله، حضروا السماط وحملوا منه لمن يقع التعيين على الحمل إلى داره، ولا يزالون على ذلك إلى العصر أو بعدها، ثم يبيت تلك الليلة هناك، ويعمل السماعات إلى بكرة، هكذا يعمل في كل سنة، وقد لخصت صورة الحال فإن الاستقصاء يطول، فإذا فرغوا من هذا الموسم تجهز كل إنسان للعود إلى بلده، فيدفع لكل شخص شيئا من النفقة، وقد ذكرت في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دحية في حرف العين وصوله إلى إربل وعمله لكتاب “التنوير في مولد السراج المنير” لما رأى من اهتمام مظفر الدين به، وأنه أعطاه ألف دينار غير ما غرم عليه مدة إقامته من الإقامات الوافرة. انتهى
قلت: احتفال وأي احتفال يا أيها المتشدد البطّال، عروض عسكرية، ومواعظ دينية، ولهو مباح، وطعام وشراب، وحرص على العبادة والصلاة في الأوقات، وشهود أعيان علماء العصر دون إنكار.
ولعلمك أيها المخالف، فالسلطان صلاح الدين الأيوبي كان على دراية بكل ذلك، فما عزل أميره ولا نهاه، والعلماء الكبار كانوا متوافرين فما أنكر واحد منهم.
ثانيا: ترجمة الأمير العزفي ( ت633 هـ):
هو أبو العباس العزفي السبتي أحمد بن محمد بن أحمد اللخمي، كان شبه ملك على سبتة، وإليه يرجع شيوع المولد النبوي بالمغرب والأندلس، وله في إثبات مشروعيته كتاب: “أعذب الْمَوَارِد وَأطيب الموالد”، ويسمى أيضا: “الدر المنظم في المولد المعظم”، مات قبل إتمامه فأكمله ابنه محمد أبو القاسم الأمير الإمام.
جاء في تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي: الفقيه المحدث الرئيس… له تواليف حسنةٌ، وكان ذا فضلٍ، وصلاحٍ، وجلالةٍ، وإتقانٍ… صنف كتاباً في مولد النبي صلى الله عليه وسلم وجوّده، وكان إماماً ذا فنونٍ… وكان معتمد بلده بفقهه وسنده… وكان فصيحاً لسناً، وعلى الرواية مؤتمناً. هـ
وفي “نيل الابتهاج بتطريز الديباج”: قال ابن الشاط: هو الفقيه العالم العامل العلم الأوحد الأورع الضابط الناقد المسند بقية المحدّثين.
وفيه أيضا: قال الخطيب ابن مرزوق: سمعت شيخنا الإمام أبا موسى بن الإمام وغيره من شيوخ المغرب، يستحسنون ما أحدثه العزفي وولده أبو القاسم بالمغرب في ليالي المولد، وهما من الأئمة، ويستصوبون قصدهما فيه والقيام به، ونُقل عن بعض علماء المغرب إنكاره، والأظهر عندي ما قاله بعض المغاربة: استعمال الصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه الليلة وإحياء سنته ومعونة آله وتعظيم نيل حرمهم وفعل أنواع البر أفضل مما سواها مما أحدث، إذ لا يخلو من مزاحم في النية أو مفسد للعمل أو دخول شهوة، وطريق الحق والسلامة معروف، فالأفضل تكثير الصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأعمال البر -اهـ- ملخصًا.
وفي أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للتلمساني: كان السلطان المرحوم أبو عنان فارس، ابن سلطان أبي الحسن المريني يجل هذا الشريف، ويعترف له بالفضل، ويعطيه العطاء الجزل، وكان يستدعيه كل سنة إلى حضرته فاس، لحضور المولد السعيد، الذي سنّه ببلاد المغرب الشيخ أبو العباس العزفي، وتلك السّنّة إلى الآن بحسن نيته، واعتنائه بالجانب العلي، نفعه الله بذلك.
وفيه كذلك: وكان السلطان أبو حمود موسى بن يوسف الممدوح في هذه القصيدة يحتفل لليلة مولد رسول الله غاية الاحتفال، كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله يعتنون بذلك، ولا يقع منهم فيه إغفال؛ وقد تقدم أنَّ العزفي صاحب سبتة هو الذي سنّ ذلك في بلاد المغرب، وأتى بزلفى تدينه إلى الله وتقرب؛ واقتفى الناس سننه، وتقلدوا مننه؛ تعظيماً للجناب الذي وجب له السمو والعلو.
قلت: لم ينكر أحد ممن ترجموا أبا العباس السبتي ما سنه في المولد الأعظم، بل مدحوه وأثنوا على كتابه، ومنهم الحافظ الذهبي مرجع السلفيين في الرجال.
وبعد، فأنتم أيها المحرّمون مطالبون بقول رأيكم في الإمامين الملكين محدثي ومشيعي المولد النبوي، والسلام.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=4929