12 أغسطس 2025 / 12:05

قراءة سوسيولوجية نقدية لنص “في غلبة التوحش” لصلاح بوسريف

داحوس عبدوس

يشكّل نص صلاح بوسريف لحظة تأمل وتشخيص لأزمة أخلاقية–اجتماعية تتجاوز حدود الانطباع الشخصي، لتلامس ديناميات أعمق في البنية الاجتماعية المغربية. من منظور السوسيولوجيا النقدية، النص يمكن قراءته كوثيقة عن تحوّل ثقافي وتربوي في سياق عالمي ومحلي متشابك، حيث يتقاطع تآكل القيم مع تبدّل أنماط الحياة، وانهيار بعض أشكال السلطة الرمزية التي كانت تنظّم الفضاء العمومي.
1- أزمة التنشئة الاجتماعية
يضع بوسريف أصبعه على المدرسة والأسرة كجهازين أساسيين للتنشئة. في التحليل النقدي:
• لم يعد هذان الجهازان يؤديان وظيفتهما في نقل القيم والمعايير، وهي الوظيفة التي تحدّث عنها دوركهايم باعتبارها شرطًا لاندماج الفرد في المجتمع.
• الانهيار هنا ليس تقنيًا أو ماديًا فقط، بل ثقافي–قيمي: غياب القدوة، ضمور الحس الجمالي، وانسحاب البالغين من دورهم التأطيري.
2- تحولات الفضاء العمومي
يشير النص إلى أن الشوارع، والشواطئ، وسائل النقل تحوّلت إلى فضاءات فوضوية.
هذا التوصيف يجد صداه في مقاربة هابرماس للفضاء العمومي:
• الفضاء الذي يفترض أن يكون مجالًا للتواصل العقلاني أصبح ساحة للضجيج والتصادم الرمزي.
• ضعف الضوابط القانونية والثقافية أدى إلى تراجع القدرة على التعايش الحضري، وتآكل حسّ الملكية المشتركة.
3- تآكل الرأسمال الرمزي والهيبة
على الرغم من أن هذا المفهوم مستلهم من بورديو، إلا أن السوسيولوجيا النقدية عمومًا ترى أن فقدان الهيبة في مهن التعليم أو الأبوة–الأمومة ليس مسألة فردية، بل ظاهرة بنيوية مرتبطة:
• بتغيّر أنماط السلطة في المجتمع.
• بانتقال من منظومات قيمية تضبط العلاقات إلى منطق السوق الذي يقيس كل شيء بالقيمة الاستهلاكية.
4-“التوحش” كظاهرة بنيوية
التوحش، في المعنى النقدي، لا يُختزل في انحدار أخلاقي، بل يعكس:
• إعادة تشكيل علاقات القوة: حين تتراجع الدولة والمؤسسات عن فرض الضبط، يملأ الفراغ منطق القوة المباشرة أو اللامبالاة.
• عنف بنيوي (وفق ج. غالتونغ): البنية الاجتماعية نفسها تُنتج حرمانًا أو إقصاءً يدفع الأفراد إلى أنماط سلوك فوضوية أو هجومية.
5- الانسحاب من “اللعبة الاجتماعية”
يصف النص سلوكيات تبدو للوهلة الأولى مجرد قلة ذوق أو فوضى، لكن يمكن قراءتها كـ:
• رفض ضمني للامتثال لقواعد لم تعد مجزية أو عادلة.
• تفكك الهوية الجمعية، حيث لم يعد الأفراد يجدون رابطًا رمزيًا يجعلهم يستثمرون في نظافة الفضاء أو احترامه.
6- أفق الإصلاح من منظور نقدي
السوسيولوجيا النقدية لا تقف عند التشخيص، بل تبحث في إمكان التغيير:
• إصلاح البنيات المؤسسية: إعادة تمكين المدرسة والأسرة من أدوارهما في إنتاج القيم.
• تجديد الفضاء العمومي: عبر سياسات حضرية وثقافية تشجع على التعايش وتحترم الاختلاف.
• تعزيز العدالة الرمزية: حتى يشعر الأفراد أن احترام القواعد يعود عليهم بالفائدة، ماديًا ورمزيًا.

خلاصة
نص بوسريف، في المنظور النقدي، ليس رثاءً ولا مجرّد حنين، بل صرخة تشخيصية ضد انهيار شبكات الضبط الاجتماعي، وضياع الأطر التي تضمن التأنس في المدينة. التوحش، كما يظهر في النص، هو عرض لأزمة أعمق: أزمة إعادة الإنتاج الاجتماعي، وأزمة الشرعية في القيم، وأزمة الفضاء العمومي.
إصلاح الوضع يتطلب تدخلًا بنيويًا متعدد المستويات، يجمع بين القانون، والتربية، والثقافة، والسياسات الحضرية.
إذن:
• من النص تنبثق أربع قراءات كبرى: أزمة التنشئة (دوركهايم)،
• تحولات الفضاء العمومي (هابرماس)،
• تآكل الرأسمال الرمزي (بورديو)،
• والعنف البنيوي (غالتونغ).
• هذه القراءات تفتح بدورها على مقترحات إصلاحية: إصلاح البنيات المؤسسية، وتجديد الفضاء العمومي، وتعزيز العدالة الرمزية.
التعقيب الذي يمكن استخلاصه من هذا الربط بين نص بوسريف والسوسيولوجيا النقدية هو أن ما يسميه الكاتب “التوحش” ليس ظاهرة عرضية أو نتيجة انحرافات فردية، بل هو مؤشر بنيوي على خلل عميق في آليات المجتمع التي كانت تضبط السلوك وتنتج القيم.
ومن خلال المقاربات الأربع (دوركهايم، هابرماس، بورديو، غالتونغ) يظهر أن:
• المدرسة والأسرة تراجعتا عن دورهما في إعادة إنتاج المعايير، فاختلّ التماسك الاجتماعي.
• الفضاء العمومي فقد معناه كمجال للتواصل العقلاني، وتحول إلى ساحة ضجيج وصراع رمزي.
• الرأسمال الرمزي الذي يمنح الهيبة والاعتراف لفاعلين أساسيين تآكل، ففقدت السلطة الرمزية قدرتها على الضبط.
• العنف لم يعد مجرد فعل مباشر، بل صار عنفًا بنيويًا تنتجه البنية نفسها عبر التهميش وغياب العدالة الرمزية.
إذن، معالجة الظاهرة لا يمكن أن تتم عبر حملات أخلاقية ظرفية، بل تتطلب إصلاحًا بنيويًا متعدد المستويات يشمل التربية، السياسات الحضرية، إعادة توزيع الرأسمال الرمزي، وبناء فضاء عمومي قادر على استيعاب الاختلاف وضبطه.
بمعنى آخر، “التوحش” ليس مجرد تراجع عن الحضارة، بل إعادة تشكّل لقواعد اللعبة الاجتماعية، وإذا لم يُعاد تشكيلها وفق أسس عادلة وفاعلة، فسيتعمق هذا المسار بدل أن ينحسر.