عبد الرحيم حجيب الإدريسي
بين ثبات الوصية ووحدة الطريق: قراءة أصولية أولية في مخرجات مجلس الطريقة القادرية البودشيشية بمداغ
عقد مجلس الطريقة القادرية البودشيشية يومه السبت 23 محرم 1447 هـ الموافق لـ 19 يوليوز 2025 بمداغ، اجتماعا يعد محطة تنظيمية وتربوية بالغة الأهمية، نظرا للظرف الاستثنائي الذي تعيشه الطريقة جراء احتجاب شيخها الدكتور مولاي جمال الدين القادري بودشيش للعلاج شفاه الله وعافاه، وما رافق ذلك من حملات تضليل وتشويش تستهدف وحدة الصف وشرعية الوصية والنيابة. وقد أسفر هذا الاجتماع عن جملة مخرجات تستدعي قراءة تحليلية علمية تستند إلى مقاصد الشريعة وقواعد الأصول.
أولا: تثبيت شرعية النيابة ومرجعية الوصية: انطلق المجلس من تثبيت المسؤولية التسييرية المؤقتة للدكتور مولاي منير القادري بودشيش، بصفته نجل الشيخ ووارث سره الجمالي، تأسيسا واعتمادا على وصيتي الشيخين سيدي حمزة وسيدي جمال، اللتين نصتا على أن الأذن في التربية والنيابة بعد الشيخ هي لبشارة العارفين سيدي منير حفظه الله. هذا التأسيس يجد سنده في أصلين أصوليين:
1 ــ الوصية المُعتبَرة شرعا، وهي تصرّف مشروع يُستند إلى العلم والحكمة والتجربة، لا سيما إذا صدر من وليّ عارف محقّق، ويُعامل في الحكم بمنزلة النص، لكونه صادرا عن مشيخة محققة في التزكية والسلوك، ومن ثمّ تنطبق عليه القاعدة الأصولية: لا اجتهاد مع وجود النص، إذ لا محلّ للاجتهاد أو التشكيك مع وجود وصية صريحة من شيخين موصولين بالسند.
2 ــ العمل بالقرائن القطعية الصارفة عن الاحتمال، إذ لا تعارض بين وجود الشيخ في حالة علاجية، وبين استمرار السند التربوي عبر نائبه، وهوما ينسجم مع القاعدة: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، والنائب هنا قائم بالمصلحة الشرعية والتربوية حفاظا على وحدة السند واستمرارية المنهج.
ثانيا: الحفاظ على وحدة الصف ورفض الفُرقة: أكد المجلس على وحدة الموقف داخل الطريقة، وعلى رفض دعاوى التشهير التي تقف خلفها أطراف منتحلة للصفة، وتروج خطابا مخالفا للعهد، لا يسنده سند روحي ولا وثيقة شرعية. ويعتبر هذا الموقف تعبيرا عن القاعدة الأصولية: الاجتماع أولى من الافتراق، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. كما أن وحدة الصف تنضوي تحت مقصد حفظ الدين، الذي يُعدّ من الكليات الخمس، ويعني في هذا السياق صيانة السند الصوفي من الطعن والافتراء، خاصة وأن الطعن في الوارث هو طعن في المُوَرِّث، وهوما يدخل في باب سدّ الذرائع، أي منع الوسائل التي تفضي إلى فساد كبير أو فتنة عامة.
ثالثا: وضوح الهيكلة التنظيمية والمهام المؤسسية: بيّنت المخرجات أن الطريقة تشتغل ضمن هيكل واضح وبتفويض مؤسسي مضبوط، حيث يُفَعّل العمل داخل هيئات متخصصة، تناط بها مهام محددة، وتُضبط بمواعيد وأدوار واضحة. وهذا يُجسد القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذ إن انتظام الذكر والتزكية، وخدمة المريدين، والقيام بالأنشطة، لا يتم إلا عبر تنظيم محكم وهيئات متكاملة مع التأكيد على الطبيعة التواصلية فقط لمؤسسة المشيخة وألا صفة إدارية أو تقريرية أو تنفيذية لها. كما ينضبط هذا التنظيم المؤسسي لقاعدة: الأمور بمقاصدها، إذ إن المقصود من هذه الهيئات ليس الهيكل ذاته، بل خدمة المقاصد العليا للطريقة في التربية والإرشاد تحت الاشراف المباشر للشيخ ووريث سره قدس الله سرهما.
رابعا: الوفاء للثوابت الوطنية والبيعة الشرعية: جاء في مقدمة المخرجات تجديد الولاء لأمير المؤمنين، جلالة الملك محمد السادس نصره الله، على عنايته الخاصة بشيخ الطريقة، وهو تجديد لعهد البيعة والوفاء للإمامة العظمى. وهذا السلوك مندرج تحت أصل: البيعة عقدٌ شرعي لا يُنقض إلا بمفسدة راجحة، كما يؤكده فقه السلوك الذي يجعل السمع والطاعة لأولي الأمر في غير معصية جزءا من أدب الطريق.
خامسا: التصدي للتضليل الإعلامي بالحجة والتنظيم: نبّه المجلس إلى خطورة الانسياق وراء الشائعات، داعيا إلى الرجوع للمصادر الموثوقة والرسمية. وهذا تأصيل صريح لقاعدة: الأصل في الأخبار التثبت، والخبر لا يُقبل إلا من عدل ضابط، وما عارضه يُرد. كما أن اعتماد القانون في مواجهة المتجاوزين يجسد أحد وجوه تحقيق المصلحة ورفع الضرر، إذ الضرر لا يزال بالضرر ولكن يزال بأخف الضررين، وإنزال العقوبة بالمسيئين يعد من باب رفع الضرر العام وحماية وحدة الصف الروحي.
سادسا: الحكمة في تدبير المرحلة المالية: تضمنت المخرجات إقرار لجنة مالية لتجاوز الأزمة المادية وتدبير الموارد والنفقات، وهو مسعى تنظيمي عقلاني، يعكس فقه الموازنات ويُستند إلى قاعدة: التصرف في المال العام محكوم بالمصلحة والشفافية، مع استحضار قاعدة رفع الحرج، وتحقيق الكفاية في النفقات بما لا يخل بالمقاصد. إحداث لجنة مالية تابعة لمجلس الزاوية ليس فقط ضرورة واقعية، بل يدخل في أصل شرعي يُفهم من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والمسؤولية هنا تشمل كل ما يُعين على استمرار الوظائف التربوية الاجتماعية للزاوية.
كخاتمة أقول: إن مخرجات هذا المجلس تعكس روحا جماعية مسؤولة، تؤمن بالتدرج، وتتمسك بالوصية، وتواجه التحديات بالتعبئة والتنظيم، وتصر على أن زمن المحنة هو أيضا زمن تحقق وتمحيص. وقد اجتمع في هذا المجلس أصلان كبيران من أصول السلوك: أولا التسليم عند غياب الفهم” وثانيا الوفاء عند ظهور الفتن، وهما من جوهر التربية الصوفية كما نقلها الأكابر.
وقد أحسن المجلس التعبير عن الصدق مع الشيخ، بالثبات على طريقه، وحفظ وصيته، والتجنيد لخدمة منزله، عملا بقول الإمام الجنيد: طريقنا هذا محصور في الكتاب والسنة، ولا تقوم أحواله إلا بالصدق، والتسليم، والوفاء. وبذلك تكون الطريقة قد قدمت نموذجا في تدبير المرحلة بالشرعية والتنظيم والربانية، وهوما يبعث برسالة طمأنينة إلى عموم الفقراء والمحبين: أن البيت قائم، والسر محفوظ، والوصية جارية، والميراث لا ينازع فيه إلا مدّعٍ على غير أصل.
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد امام الاولياء وسيد المهتدين.