محمد علي لعموري
بالأمس القريب ، تم إطلاق شائعة مكذوبة عن وفاة الكاتبة والناشطة الحقوقية نوال السعداوي ، ثم تبين أن الخبر غير صحيح ، وأن من أطلق الشائعة يتعجل موتها كما لو أن بموتها ستموت أفكارها !
وقتها كتبت مقالة بعنوان ” لماذا قتلوا نوال السعداوي بالإشاعة؟ أشرت إلى أن استعجال موتها يفسر مدى الإزعاج الذي يسببه كل صوت نسائي صداح بفضح العقل الذكوري داخل مجتمع يرغب في إخراس كل فكر حر فبالأحرى أن يكون نسائيا.
وقبلها تعرض المفكر والباحث نصر حامد أبو زيد لحملة تشهير بشخصه ساعات قليلة بعد وفاته يزعم دهاقنتها أن الرجل مات على إثر مرض غريب ألم به لم يتعرف عليه أطباء العصر في إشارة إلى الإنتقام الإلهي حسب فهمهم القاصر لجلال الموت !
اليوم يترجل عن هذه الحياة مفكر كبير كرس جهده لإعادة فهم القرآن بمنهجية تأويلية تروم توليد معاني جديدة من القرآن هو المفكر محمد شحرور.
طبعا لكل مجتهد نصيب ، وقد اجتهد شحرور السوري قيد حياته فيما سكت عنه الكثير من الناس ، وتعرض للهجوم عليه من طرف الإسلاميين والسلفيين ، وكذلك فعلت النخبة الفقهية التي تسهر على تأبيد تفسير قروسطي في عصر ما أحوج المسلمين فيه إلى جرأة مفكرين مثل : محمد شحرور ( الكتاب والقرآن ) ، محمد أركون ” قراءات في القرآن” محمد عابد الجابري “فهم القرآن”..الخ
طبعا الإختلاف مع شحرور يبنى على الموضوعية والعلم وليس على أساس الإيديولوجيا والتحيز للتيارات الدينية المتشددة التي تحتكر أو تدعي الفهم الصحيح للدين وللنصوص القرآنية. وهذا ما جعل أطروحاته تحظى بالتجييش ضدها لأنها تحطم الأصنام القديمة التي تراكمت كفهم متقادم يحتاج لإعادة التجديد فيه ليصبح مواكبا لروح العصر مثلما كان عليه العهد في العصر الذي ظهرت فيه النبوة.
بهذا المنطق فإن كل جديد يريد التجديد من داخل التراث الديني الصلب ، يبدو كصرخة في صحراء داخل مجتمع متدافع ما بين تيار محافظ تذكيه التيارات الدينية التي تنشط أفضل وأقوى من المجتمع المدني ، وما بين تيار حداثي شبه علماني يروم فتح أبواب المعرفة العلمية لتهب نسائمها على الفكر الديني المنغلق.
وحتى إذا ما وجد له من ردة فعل فلن تكون سوى إتهامات بالتشكيك في دوافع هذا الإجتهاد ، والجهة الممولة له ، والقوى الأجنبية المعادية للإسلام التي تقف وراءه كذا !
قيل هذا عن كتب أركون وشحرور ونوال السعداوي ، دون أن يسأل هؤلاء عمن يمول الفكر السلفي المتطرف ؟ ومن يمول الإرهاب الذي يقتل الإنسان ؟ ومن يحرض على القتل والترهيب ؟
فهل يستوي الذي يدعو لتنوير العقل وتعليمه منطق الجدل وإعمال العقل والتشكيك في البديهيات الموروثة لفرز الغث منها عن سمينه ، والذي يدعو للحجر على العقل بشكل عام وعقل المرأة بشكل خاص؟ ومن يدعو الناس لإعمال العنف وسيلة لإخراس الأفكار كي لا تحلق فوق عقول البشر ، حفاظا على السلطة الدينية التي يحوزها الفقهاء والإسلاميون والسلفيون والطرقيون وهلم تيارات دينية محافظة.
مات محمد شحرور ، وما ماتت أفكاره ، بل ستخلد بين الناس في العالمين ، ولأن أعداء التجديد والإصلاح والتحديث يعلمون ذلك جيدا ، ويعرفون أن نباح الكلاب يزعج الآذان الإمعة التي تسيخ السمع وتنقاد كالقطيع ، بينما لا ينال من قيمة العقول الكبيرة التي تركت بصمة لامعة وأضافت للإنسانية فكرا جديدا يقارع الفكر السائد ، فإنهم يخشون من الفكر الحر ويعمدون إلى إسكاته بتشويه السمعة أو شيطنة فكر صاحبه بترويج الأراجيف حوله ، لعلم هؤلاء الكذبة أن عامة الناس لا تقرأ بينما تصدق الإشاعة بسهولة لأنها الأقصر التي ترضي كسلهم.
حدث هذا مع نجيب محفوظ الذي تعرض لمحاولة القتل من طرف مواطن مصري لم يقرأ له شيئا مما كتبه ، لكنه سمع مشايخ الفتنة يكفرون الأديب العالمي انطلاقا من إبداع أدبي المفروض أن يرد عليه بالنقد الأدبي المتعارف عليه وليس بالفتوى وبالمحاكمة كما فعلوا مع نصر حامد أبو زيد الذي تعرض لمحاولة التفريق بينه وبين زوجته في قضية حسبة رفعت ضده من أحد المشايخ المفوهين.
وحدث نفس الشيء مع نوال السعداوي التي تعرضت للتكفير والسب والقذف ووصفت بالعجوز الشمطاء لأنها بلغت من العمر عتيا فما كلت ولا تعبت بل ظلت تنادي بتحرير المرأة وتحرير الإنسان العربي من التبعية للسلطة الذكورية التي تسجن عقله داخل دوغمائيتها المتوارثة أبا عن جد.
يموت الإنسان ولا تموت الفكرة المتقدة جدة وحداثة وتحريرا تلك التي بثها في النفوس وخلخل بها عقول الناس من بني جلدته ، وهذا ما يجعل فكر هؤلاء المجتهدين يخلد بعد مماتهم قرونا رغم أنف المغرضين والحانقين.
ألم يحرقوا كتب الفيلسوف إبن رشد ، ألم يقتلوا الحلاج وقبلهما قتلوا الفيلسوف سقراط ، وقتل الأنبياء الذين جددوا في عصرهم ونادوا بالحق والعدل والخير فما قضوا على أثرهم بل ظل صادما يشهد على بربرية العوام والجهالات وأعداء التقدم الذين يتهددهم الإنقراض كما يتهدد كل من لم يترك بصمة لامعة يذكره بها الناس من بعده؟.
ليرقد جسدك تحت الثرى في سلام يا محمد شحرور أما روحك فإنها مبثوثة في مجلداتك التي سيتعرف عليها صنف من البشرية يعشق الحرية وينتفض ضد الجهل والخرافة والتقليد الجامد في الدين وفي الحياة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=6006
