في مآزق قراءة عبد الكريم سروش للغة القرآنية

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس31 يناير 2025آخر تحديث : الجمعة 31 يناير 2025 - 9:59 صباحًا
في مآزق قراءة عبد الكريم سروش للغة القرآنية

محمد التهامي الحراق
لم تتمكن الدراسات المعاصرة للقرآن الكريم بعد من الرصد الدقيق لخصوصية اللغة القرآنية التي لا تضاهى. فمن قول القدماء ب”إعجازها البلاغي” وبفرادة “النظم” في القرآن الكريم، إلى القول الحديث بكونها لغة “تمثيلية” أو “رمزية” أو “ميثية”، أو هي “رؤى محمد” يحكيها بكلامه في القرآن، أو “فكر إلهي” معبر عنه ب”كلام النبي”…إلخ؛ تبقى جل هذه الدراسات والتفسيرات قاصرة، تعلن عن مأزق لغتها الواصفة أكثر مما تكشف عن خصوصية اللغة القرآنية.

وأكتفي هنا بالاقتراب النقدي الخفيف من آخر ما طلع علينا به المفكر الإيراني عبد الكريم سروش في كتابه “كلام محمد، رؤى محمد”، وهو يروم تطوير نظريته في بسط التجربة النبوية، والانتقال من مجرد القول بأن الرسول كان فاعلا مساهما في تشكيل الوحي، ولم يكن مجرد متلق سلبي أو صدى له، إلى القول بأن لغة القرآن الكريم “كلام محمد” يروي فيه “رؤاه” المنامية التي هي وحي؛ ومن ثم، لا يقتضي هذا الكلام حسبه التفسير ولا التأويل، بل يقتضي “التعبير” مثل سائر الرؤى، كما هو شأن رؤيا يوسف داخل النص، وقصة المعراج في سيرة النبي الكريم.

وهذا الفهم، في نظر سروش، هو ما سيخرجنا من كثير من إشكالات لغة القرآن الكريم وتناقضاتها، مثل الحديث عن المستقبل بأفعال مصرفة في الزمن الماضي، أو الحديث اللامنطقي عن الزمان، أو استعمال لغة محدودة مقيدة بثقافة ومعارف وتاريخية زمن النبي…إلخ. ويرى سروش بأن مثل هذا الفهم سيحررنا أيضا من كثير من الإحراجات والتخبطات التي وقع فيها فقهاؤنا ومتكلموها في تعاملهم مع القرآن الكريم، دون أن يجدوا لها حلا أو مخرجا.

ولنا على مثل هذا الفهم ملاحظات أولية:
– إن هذه المقاربة لا تستوعب في قراءتها أن اللغة القرآنية ذات مستويات، أبرزها، وبنوع من الاختزال، ثلاثة: المستوى الميتافيزيقي الشعائري، والمستوى التاريخي التشريعي، والمستوى السردي الأخلاقي. وإذا كنا نقبل التفكير في تفسير سروش بخصوص المستوى الأول، فإن المستويين الثاني والثالث لا يقبلان ذلك؛ لكون التاريخ والتشريع يستدعيان أفقا آخر للفهم يعتبر بالمنطق والتاريخ والعقلانية الاستدلالية، ولكون السرد القرآني ذي المقاصد الأخلاقية تنتظمه وحدة في الرؤية والمحددات المتعالية والرهانات السردية والقيم الأخلاقية، يستحيل أن تستجيب لها رؤى منامية على مدى ثلاث وعشرين سنة.

وحين نستحضر أن المستويات الثلاثة تتضافر لتشكيل رؤية كلية معينة للوجود والحقيقة والمعنى والألوهية والنبوة والمصير أو المعاد والأخلاق…إلخ؛ فإن احتمال النظر بالتفسير السروشي يسقط بالكلية، بما في ذلك تعذر التفكير به في المستوى المتافيزيقي التشريعي.

– الملاحظة الثانية أن ثمة عقلانية قرآنية لها منطقها الخاص، والتي تتجلى في النظام الذي يبدو “لا نسقيا” في القرآن الكريم. فهذه “اللا نسقية” التي يبرر بها أيضا سروش اقتراحه لفهم اللغة القرآنية، هي نفسها ذات منطق ولها “عقلانيتها” الخاصة التي تختلف جذريا عن طبيعة الرؤى التي تقتضي “التعبير”. فما يبدو “لا نسقيا” في القرآن الكريم يضاهي “لا نسقية” الظواهر الطبيعية في الكون، والتي تبدو منفصلة وغير قابلة للفهم والتفسير في لحظة معينة، لكن كلما تقدم العلم وتطورت مفاهيمه ومناهجه إلا واستطاع أن يبدد هذه “اللانسقية”، ليكشف لنا العلائق الخفية العميقة والدقيقة بين تلك الظواهر.

الأمر نفسه ينطبق على “مصحف القرآن” مثلما هو متحقق في “مصحف الكون” إذا استعملنا لغة الشيخ محيي الدين ابن العربي. هذا الأخير الذي كان يطلق على العرفاء الذين فُتِحَ عليهم في فهم العلائق الخفية بين الآيات مما يبدو ظاهرها متنافرا؛ كان يطلق عليهم “أصحاب الموازين”.

3- هنا نأتي إلى الملاحظة الثالثة، وهي كون سروش يستند في مقاربته هذه للقرآن الكريم وللغته إلى أهل العرفان. ولا أعتقد أن المقاربة العرفانية بإجمال، وهي تنتج ميراثا باذخا من التفسير الإشاري، تسوغ مثل ما ذهب إليه سروش. فالعرفانيون يميزون بين التأويل العرفاني والتأويل الباطني للقرآن الكريم، ومدار ذاك التمييز أساسا هو اعتبار أهل العرفان، في أي قراءة إشاريّة للقرآن الكريم، ظاهرَ النص وبنيتَه اللغوية والدلالية والمساقية والسياقية، وكذا أخذهم بمتعاليات الرؤية القرآنية الكلية سواء في التأويل الإشاري الظاهري أو التأويل الإشاري المحض.

ومن ثم، فإن الطرح السروشي يفقد كل مبرراته من داخل القول العرفاني؛ بما في ذلك ميراث مولانا جلال الدين الرومي الذي لا ينبغي فصل تأويل “مثنويه” عن ضوابط تعامله هو نفسه مع القرآن الكريم، وعن ضوابط القول العرفاني بإجمال.

تلخيصا، هذه مجرد ملاحظات أولية تؤكد ما سبق أن أكده محمد أركون في كتابه “الإسلام والأخلاق والسياسة ” لما أعلن فشل المناهج الحديثة في استيعاب خصوصية اللغة القرآنية والدينية، تلك الخصوصية التي التي أكد هو نفسه أنه يتفرد باستشعارها أهل المعرفة العرفانية.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.