في تعريف الدولة العميقة

ذ محمد جناي
دراسات وبحوث
ذ محمد جناي1 يوليو 2021آخر تحديث : الخميس 1 يوليو 2021 - 6:27 صباحًا
في تعريف الدولة العميقة

ذ. محمد جناي
ظهر مصطلح “الدولة العميقة” مؤخرا خلال النقاشات الأكاديمية والسياسية في العالم العربي، ونشأ هذا المفهوم من الفضائح المتنوعة التي ضربت تركيا في التسعينات، عندما اكتشف أن التعاون الحاصل في الخفاء بين المخابرات التابعة للدولة والقضاء الفاسد والجريمة المنظمة هم من يدير النظام من خلف الكواليس ، وتعرف الدولة العميقة في تركيا باسم ” ديرن ديفلت” وقد كانت مفهوما لا صلة له بالعالم العربي ، حيث كانت الأنظمة الحاكمة عبارة عن دكتاتوريات لا تخفي نفسها ولا تخجل من هذا الوصف.

ولكن بعد الثورات العربية عام 2011 ، بات مفهوم “الدولة العميقة” مألوفا أكثر عند السياسيين والمحللين في الدول العربية، فقد نسبوا لدولة الظل العميقة العقبات التي واجهت التحولات الديموقراطية في بلدانهم، وبُنيت الكثير من نظريات المؤامرة على فرضية أن الدولة العميقة هي التي تجمع بيديها جميع خيوط القوة، وهي من تضرب في الخفاء وتنتقم لنفسها من الأنظمة التي جاءت بعد الديكتاتورية.

وطبعا يبقى مفهوم الدولة العميقة من المفاهيم التي مازالت غامضة رغم قدم نشأته نسبيا ، كما أنه أكثر المفاهيم إثارة للجدل حيث لا يوجد اتفاق على تعريف محدد له ولا على محدداته وأبعاده، بالإضافة إلى أنه يتشابك مع عدد من المفاهيم المستخدمة في الأدبيات السياسية ، مثل مفاهيم حكومة الظل ، الدولة الموازية، جهات التحكم ،دولة داخل دولة وغير ذلك ،والحديث لأول مرة عن هذا المفهوم جاء في مقال بصحيفة نيويورك تايمز عام 1997 عن الدولة التركية وذكر أن الدولة العميقة هو تعبير يطلق على مجموعة من القوى الغامضة التي يبدو أنها تعمل بعيدا عن يد القانون ، بينما يذهب آخرون إلى أن الدولة العميقة هي دولة غير مرئية وسرية وتوازي الحكومة العلنية الشرعية .

إذن هي مجموعة التحالفات والشبكات(الأخطبوطية) التي لها قنوات متعددة والتي تمتد داخل جسد البلد الواحد أفقياً وعموديا بدون أن يكون لها شكل أو تنظيم محدد أو معروف، وتضم الدولة العميقة: رجال سياسة، رجال أعمال ومال وبنوك، ضباط أمن وجيش، نواب وأعضاء برلمان، قضاة، رجال دين وإعلاميين وفنانيين، وكل هؤلاء يشكلون فيما بينهم نواة من المصالح المشتركة وتكون هذه النواة معقدة ومترابطة ولا يعرف معظم أفرادها بعضهم البعض ولكنهم يعملون لهدف مشترك واحد وهو تنمية وحماية مصالحهم الشخصية والامتيازات التي حصلوا ويحصلون عليها والتي غالبا ما تكون طرق الحصول عليها مخالفة للقانون.

مصطلح “الدولة العميقة” عند البعض يعيد بدايته إلى عصر الدولة التركية الأتاتوركية، حيث عملت المؤسسة العسكرية التركية حينئذ على الحفاظ على علمانية أتاتورك وكانت بهذا الدور دولة داخل الدولة، ومن هنا يمكن القول إن التعريف الأبسط والأوضح للدولة العميقة أنها دولة داخل الدولة تتشكل لها أهداف محددة تعمل بكافة الطرق الممكنة وفي فضاء مؤسسات الدولة ذاتها لتحقيق تلك الأهداف وبهذا الفهم فإن الدولة العميقة أقدم وجوداً من الدولة التركية، فمعاوية رضي الله عنه وصحبه مثلاً شكلوا دولة داخل الدولة الإسلامية لتحويل الشورى لحكم شخصي عائلي، والبرامكة والعجم شكلوا دولاً عميقة في الدولة العباسية، وفي العصر الحديث فإن العلوية كانت دولة عميقة في سورية، وحزب الله دولة عميقة قوية في لبنان وطبعا يشكل المخزن في المغرب دولة عتيقة هو الآخر في المغرب .

وتتشكل “الدولة العميقة” من حلقتين:
الأولى، وهي الأساسية، وتُكوّن النواة الصلبة لهذه “الدولة”، وتأتي من داخل بيروقراطية الدولة، وتضم مسؤولين غير منتخبين يعملون بوظائف دائمة، ويحتلون مواقع مهمة ومِفصلية في المنظومة الإدارية – الأمنية للدولة، كوزارات الخارجية والدفاع والأمن والعدل والمالية، تُمكّن المواقع النافذة هؤلاء المسؤولين من التحكّم في مجرى عملية تطبيق القانون وتنفيذ التعليمات وتدفُق المعلومات، ما يمنحهم قوة هائلة في ضبط عملية صنع السياسات، ويمارس هؤلاء قوتهم التحكّمية من خلال، أولاً، استخدام قدرتهم على تعطيل كل ما يعتبرونه تدخّلاً في غير محلّه، أو مُضّراً، يقوم به المستوى السياسي المنتخب، والذي لا يحظى بالضرورة باحترامهم إما لقلة خبرته أو لمروره العابر على سُدّة الحكم، أو كليهما، بينما هم من تراكمت لديهم، بفعل سنوات الخدمة الطويلة، المعرفة والخبرة والاستمرارية، ولذلك هم على الاعتقاد أنهم من تقع عليه مسؤولية ضبط إيقاع المنتخَبين كي يتم الحفاظ على مصالح الدولة التي تصبح متماهية مع رؤيتهم ومصالحهم وثانياً، هم قادرون على التحكّم أيضاً بواسطة توظيف قدرتهم التقديرية من خلال حصر خيارات المستوى السياسي في مجرى مُحدّد، وذلك من خلال تقنين توصياتهم المقدمة لهذا المستوى بالطريقة التي تلائمهم.

أما الحلقة الثانية، فهي إضافية على الأولى الأساسية، تُوسّعها وتُقوّيها من خلال تمددها عبر شبكة من الأنفاق التي تخترق القطاعات الحيوية في البلاد، لتُنتج نخبة متوافقة في الفكر والرؤية والتوجه، ومؤتلفة- حتى وإن لم يعرف أفرادها بعضهم بعضاً- على هدف الحفاظ على الصيغة العامة لهذا التوافق، ويتم ذلك عبر تحويلها إلى شبكة عريضة ومتراصة من أشخاص نافذين يسعون جميعا للحفاظ على النظام القائم المُعبّر عنها، تضمّ هذه الحلقة، كما يدّعي مروجو “الدولة العميقة”، من سياسيين مخضرمين، حالياً وسابقين، وشخصيات مؤثرة في سوق المال وقطاع الأعمال، وخصوصاً من تلك الشركات العملاقة المرتبطة مع الحكومة بتعاقدات كبيرة ومستمرة، ومجالي الفن والإعلام، ورؤساء جامعات وأساتذة مهمّين، وأعضاء من مراكز البحث والتحليل المرموقة بالبلاد كل هؤلاء يصبحون جزءاً من هذا “الجسم” الذي يمتلك المزيج السحري من تحالف قوة السلاح والمال والمعلومات والقدرات، ما يمنحه قوة تأثيرية هائلة لا يستطيع معها الساسة المنتخبون تجاوزه، أو حتى تجاهله.

وأهم مميزات “الدولة العميقة” أنها تعمل من خلال مؤسسات الدولة نفسها، وتتشكل هيئاتها حول أو ضمن مؤسسات الدولة بموجب أحكام القانون، ولكنها لاحقا تنقسم في توجهاتها إلى وجهات عدة، فهي في تركيا ــ على سبيل المثال كانت تهدف للحفاظ على الدستور العلماني، أما في تونس فكانت تهدف للحفاظ على النظام القمعي الذي لا يطبق الدستور وفي المغرب فالدولة العتيقة فكانت تهدف إلى الحفاظ على مؤسسة العرش وصلاحياتها ،و في المملكة المغربية، ومع تزايد استخدام هذا المصطلح مؤخرا نتساءل: هل هنالك دولة عميقة في المغرب ؟ وما هي عناصرها ؟ وما هي أهدافها؟

أغلب من يتحدث في هذا المصطلح محلياً يشير صراحة أو دلالة إلى مايصطلح عليه بالمخزن باعتباره أهم ممثل للمملكة المغربية العميقة، البعض الآخر يشير إلى نادي أصحاب الدولة والمعالي السابقين، وبالتأكيد هناك من يشير إلى تحالف حيتان رؤوس الأموال، أو يشيرون إلى تحالف كل أو بعض ما ذكر أعلاه، وعلى الرغم من أن الإجماع في المغرب على الحكم الملكي المطلق هو إجماع تام، إلا أن الدولة العميقة بكل تشكيلاتها ــ إن كانت حقيقة ـــــ متوجسة من أي انفتاح سياسي على أرض الواقع، وقد تبدو يمينية التوجه، بمعنى أنها نهجت نهج المحافظة على الوضع الراهن والمتمثل بجرعة قليلة محجمة من الديمقراطية والسير بالإصلاح السياسي “خطوة خطوة” أو اقل من ذلك.

كما أن للدولة العتيقة في المغرب وجهان: الأول معلن وظاهر ويتمثل في شخصيات ورجال دولة يشغلون مواقع ومناصب سياسية ونخبوية متقدمة وشخصيات في مؤسسات الدولة المختلفة، والوجه الآخر هو وجه خفي وغير معلن وهو مسؤول عن تحريك أذرع الدولة العميقة المعنية والمتغلغلة في مؤسسات الدولة الأساسية لتنفيذ مخططات مرسومة بأياد خفية تعمل بطريقة متناغمة ومسيطر عليها بحسب ما تقتضي الضرورات والمصالح.

وللدولة العميقة ستة أقنية رئيسية: القناة السياسية، القناة المالية، القناة التشريعية، القناة القضائية، القناة الاعلامية، القناة التنفيذية والأمنية، وكل قناة من هذه الأقنية تتحرك في اتجاه معين ولكنها في النهاية تصب في مصلحة الدولة العميقة بشكل أو بآخر، وتتحرك جميع هذه السمفونيات بتناغم شديد يدل على وجود رأس مركزي يتحكم بها جميعاً لضمان عدم حصول الإختلاف والتصادم مع بعضها البعض، وتعمل هذه الأقنية مجتمعة على إزالة كل ما يهدد مصالح الدولة العميقة، كما أن محاور أو أذرع تنظيم الدولة العميقة يعمل لتأسيس وترسيخ مفهوم (دولة الظل) أي بمعنى خلق ما يعرف (دولة داخل الدولة) وبالتالي توظيف وسائل العنف والضغط بطرق خفية للتأثير على النخب والكتل السياسية والمؤسسات الاقتصادية والإجتماعية في البلاد وحتى المؤسسات الدينية المتنفذة لضمان تحقيق مصالح معينة ضمن إطار ديمقراطي شكلي.
============
هوامش:
(1): الثورة والدولة العميقة – فلسفة الصراع واستراتيجية المواجهة ، عباس شريفة ، إصدار مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام ،طبعة 2018
(2): علي لجرباوي “الدولةالعميقة”: محاولة لضبط المفهوم،جامعة بيرزيت مدير – معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية بتاريخ :29تشرين الثاني 2018.
(3):من الدولة العميقة إلى تنظيم الدولة الإسلامية، الثورة العربية المضادة وموروثها الجهادي، تأليف :جان بيير فيليو ، ترجمة :مركز الخطابي للدراسات طبعة: 2020/2021.
(4): مقال رأي بعنوان” في تعريف الدولة العميقة” ، ل ميرنا داوود في موقع اينوما بتاريخ2021-06-13.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.