نورالدين الحاتمي
كثر الحديث، في الأعوام الأخيرة، عن مصالحة تجري بين معتقلي (السلفية الجهادية) والدولة، وتشرف عليها الرابطة المحمدية للعلماء والمندوبية العامة للسجون، بمشاركة مع باحث من هنا و هناك، ونحن لا تعنينا هذه المصالحة، ولا تعنينا الجهود، التي تبذلها تلك الجهات في الموضوع، وليس لنا مع هذه الجهة أو تلك أي ثأر.
فإذا كانت تلك الجهات تبحث لنفسها عن مشاريع تعتاش عليها وتأكل منها، فذاك شأنها. نحن، فقط ، يعنينا ـ وبصفتنا من جملة تلك الأسماء التي اندرجت تحت عنوان (السلفية الجهادية) ـ فإنه يجوز لنا أن نمارس حقنا في بيان حقيقة هذه المصالحة “المزعومة والزائفة”.
وإنما يحملنا على تناول هذه المبادرة بالنقد والتقويم، ما تروجه تلك الجهات من القول إن مبادرتهم تلك، مبادرة متفردة، وأن عمليتهم تلك، تؤدي إلى نتائج مبهرة. وهذا القول “المنكر” يصدر عن الرابطة وعن المندوبية العامة للسجون كلاهما. فهل صحيح أن هناك مبادرة للمصالحة بين هؤلاء المعتقلين وبين تلك المؤسسات؟ وهل يصح أن نتحدث عن مصالحة قائمة، فعلا، بين تلك الجهات وبين هؤلاء المعتقلين؟وهل من الممكن أن تقوم هناك مصالحة من هذا النوع؟
من النافل القول، إن هذا النوع من المبادرات لا معنى له ولا قيمة، لاعتبارات، منها أن هذه المبادرة لا تتأسس على أي حوار صريح وواضح بين الأطراف، وإنما هو عرض تطرحه تلك الجهات، يفهم منه السجناء أن فرصة ما ـ ربما تكون سنحت لهم للخروج من السجن ـ فيسارعون إليها، ولا يكون بإمكانهم أن يعربوا عن آرائهم وأفكارهم، ولا يكون بمقدورهم ذلك.
وحتى إذا كان هناك ما يشبه الحوار، فإنه لا يمكن أن يكون حوارا حقيقيا، لافتقاده شرط الحرية. فلا يمكن أن نتصور حوارا يقوم بين سجان وسجين، بين معتقل “بفتح اللام” ومعتقل “بضم اللام”، إن حوارا يقوم بين من يملك “كل شيء” وبين آخر لا يملك “أي شيء”،ليس في واقع الأمر إلا ابتزازا.
المعتقلون ليس عندهم أي شيء يفاوضون به، في حين أن تلك الجهات تملك الكثير، وتملك أن تفرض شروطها وإملاءاتها.
نحن نشير إلى هذه النقطة بالذات، للتنبيه إلى أن مزاعم الجهات القائمة على هذه المبادرة والتي مفادها أن هذه الأخيرة حققت وتحقق المراد منها، ليست حقيقية وأنها محض أكاذيب. وأن الرابطة لا يمكن أن تنجح في هذا الرهان، لأنها لا تملك مفاتيح تفكيك خطاب هؤلاء كما تدعي، ولن يكون في مكنتها ذلك، ومن البدهي أن الدفاتر التي عكفت على كتابتها نخبة الرابطة، هي من التهافت والضحالة الفكرية والسطحية، بمكان، بأمارة أنهم لم يستطيعوا حتى تمكين المعتقلين من الإطلاع عليها والإقتناع بطروحاتها.
والذين التحقوا بتلك المبادرات، لا يمكن أن يقتنعوا بتلك الأسماء المشرفة عليها، ولا يمكن أن يثقوا بها، إنهم، فقط، يجربون حظوظهم، وأغلبهم إنما كانوا قد قاموا بمراجعات ذاتية وشخصية، ولعب فيها تواجدهم داجل السجون والمعتقلات، وتوقهم إلى الحرية، دورا حاسما. وتلك المراجعات، التي قام بها اولئك الشباب، هي أعمق وأصدق من تلك التي تفرضها عليهم تلك الجهات، وتستغل فيهم ضعفهم وهوانهم على الناس، وأغلب أولئك الشباب الذين قاموا بتلك المراجعات، لم يكونوا “(سلفيين جهاديين”) حقيقة، وإنما كانوا شبابا سلفيين بالعرض، أي وجدوا أنفسهم مورطين في ملفات أكبر منهم وأثقل وأضخم، وهم يسعون جاهدين، للإفتكاك منها.
ولفت الإنتباه إلى هذا الموضوع ضروري، حتى يكف هؤلاء عن الترويج لبضاعتهم المزجاة، والإعتراف بأن تجارتهم تلك، هي تجارة كاسدة أخلاقيا ودينيا، فهم لا يستطيعون حتى إقناع انفسهم بتلك المواد “الرخيصة” التي يعرضونها للناس، ولا يقرؤها أحد، فضلا عن أن يقنعوا بها غيرهم.
ثم إن ما يزيد من تعقيدها وتأزيمها، تلك العناصر التي تعتمد عليها المبادرة، حيث إنها تعتمد على قضايا لا معنى لها ولا حاجة إليها، وهي بالإضافة إلى ذلك ، ملتبسة وغامضة، كهذه “المصالحة مع النص” و”المصالحة مع المجتمع” و”المصالحة مع مؤسسات الدولة”.
فماذا يعني أن يتصالح السلفي الجهادي مع النص؟ وأي نص هذا الذي تجب المصالحة معه؟ إنا لا نعلم أناسا (أكثر) مصالحة من حيث الالتصاق بالنص والتفسير الحرفي ـ أو القريب من الحرفي ـ له، من هذا “السلفي الجهادي”، وما هو هذا التفسير الذي ينبغي تبنيه حتى تحصل هذه المصالحة؟
من الواضح أن الرابطة وهي تعرض تفسيرها وتصورها للنص الديني، تفترض أن تبني رؤيتها هو معنى “المصالحة مع النص”هنا، وإذا ألقينا نظرة أولية إلى إصدارات الرابطة، سيتأكد لنا أن هذه المصالحة مستحيلة وغير ممكنة، فلا يمكن لمسلم عاقل أن يصدق أن تلك الإصدارات تقدم فهما مقبولا للإسلام وتصورا معقولا للدين. فإذا كان الدين، والاسلام بالخصوص معزولا عن إضافات اللاهوتيين وتأويلاتهم، هو المعبر عن المرحلة “الفطرية”، فإن التفسيرات، التي يدافع عنها هؤلاء المعتقلون، هي الأقرب إلى تلك الفطرية، مما يدعيه مسؤولو الرابطة. والمعتقلون ـ كما غيرهم ـ لا يمكن أن يقبلوا تأويلا ما للإسلام يصدر عن أناس ينتمون الى مؤسسة رسمية.
ثم إن الدولة ومؤسساتها، من وجهة نظر هؤلاء،ـ وهي وجهة نظر يتقاسمها معهم جل طوائف الشعب المغربي والشعوب الإسلامية قاطبة ـ هي التي يتوجب عليها أن تتصالح مع هذا النص، وأن تحترمه على الأقل، وهي التي ما فتئت تدوس عليه وتهينه غاية الإهانة، فإذا كان على أحد أن يتصالح مع النص، فإنه هو الدولة ومؤسساتها، وهو الرابطة المحمدية والمندوبية العامة للسجون.
وماذا يعني المصالحة مع المجتمع؟ أعتقد أنه آن الآوان للقول أن تلك الجماعات، ليس لها أي مشكل مع المجتمع، وأن المجتمع نفسه، لا مشكل له معها، فتلك الجماعات هي جماعات تتكون من أفراد هذا المجتمع وعناصره، وهم لا يختلفون عن غيرهم، اللين فيهم لين حيث كان، والعنيف فيهم عنيف حيث كان، وعلم الإجرام ـ كما صاغه اللومبروزو ـ كفيل بأن يوضح لنا هذه المسألة.
المجتمع أكثر تضامنا مع معتقلي السلفية وأكثر احتراما لهم وتقديرا، وهو يفسر الهجمة الشرسة التي تقوم بها الدولة لتفكيكهم وتفتيت صفهم، في سياق الحرب المعلنة على الاسلام و”المنتسبين اليه”، وليس في أي سياق آخر. وأولئك الذين يصنعون الأكذوبة ويصدقونها، عليهم، هم، أن يتصالحوا مع أنفسهم، ومع الحقيقة المرهقة لهم، فيقلعوا عن الكذب على الناس، فالمنتسبون لـ “للسلفية الجهادية” منتسبون أيضا لهذا المجتمع ويعيشون فيه وفي كنفه، وعدوهم هو عدو المجتمع، أي الدولة. وحقد المجتمع على الدولة لا يقل عن حقد السلفية الجهادية، وحقد هذه الأخيرة لا يزيد عن حقد المجتمع، كلاهما يكرهانها ويبغضانها ويبرأن منها.
والزعم أن السلفية الجهادية لها مشكل مع المجتمع، محاولة رخيصة ومفضوحة تستهدف تحريض الناس على فئة ضعيفة و عاجزة، وافتعال عداوة لا أصل لها، بين هذه الفئة والمجتمع الذي تنتمي اليه.
وإنه إذا كان لأحد أن يتصالح مع المجتمع، فهو الدولة التي لا تتوقف عن احتقاره ومصادرة حقوقه وتضييع مصالحه وإرعابه وإرهابه. إن الدولة المغربية ـ كما الدول العربية ـ ليست ضد المجتمع فقط، بل ضد الأمة أيضا، بعبارة برهان غليون.
نتفق إذن أن الحديث عن المصالحة بين معتقلي “السلفية الجهادية” والنص، وبينهم وبين المجتمع كلام فارغ ويؤسس للمغالطة، ولا يسهم في حل المشكل بل يزيده تأزيما.
أما المصالحة مع الدولة ومؤسساتها، فلا نعرف كيف ستكون؟ وهل ثمة من هو متصالح معها؟ هل ثمة من ابناء المجتمع من يحترمها؟ وهل هي تحترم نفسها حتى يحترمها غيرها؟
إذا كانت الدولة المغربية، وهي نموذج ممتاز للدولة الفاسدة، أو التي يعشش الفساد في كل هياكلها وبنياتها، بهذا السوء وبهذا القدر من الفساد، وكان من أفراد المجتمع، من لا يكن لها الولاء إلا من يستفيد منها، وترتبط مصالحه بها وببقائها، فكيف يمكن تصور مصالحة بينها وبين قوم نكلت بهم وضيعت سنين من اعمارهم وانتقمت منهم شر انتقام، وهم لا يعرفون حتى فيما تنتقم منهم .
لا يمكن ان نتحدث عن مصالحة بين الدولة وبين أناس هي التي تدفع بهم الى الحافة، وإلى الهاوية، وهي التي ترغمهم ـ بطريقة وبأخرى ـ على التورط في هذه الآفات ليسهل عليها التنكيل بهم، ولتصنع لنفسها المبرر للقضاء عليهم.
إن مشروع المصالحة التي ترعاه مؤسسات الدولة مع هؤلاء المعتقلين مكتوب عليه أن يفشل، وقدره أن يفلس، وإنه الأولى بالدولة ان توقفه وان تفكر في صيغة جدية ومعقولة تحل بها هذا الملف وتفك بها اسر هؤلاء المعتقلين وتحفظ لها ماء وجهها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=5916