6 أغسطس 2025 / 18:03

فلسفة ما بعد الإنسان أو تحولات الذات في عصر الكائنات المعززة

حمدي سيد محمد محمود
“تشير فلسفة ما بعد الإنسان (Posthumanism) إلى تحوّلٍ جذري في فهم الإنسان، ليس فقط بوصفه مركز الكون أو الكائن الأرقى، بل بوصفه نقطة عبور نحو نماذج جديدة من الوجود تتجاوز الخصائص البيولوجية والأنطولوجية التي لطالما كانت معيارًا لتعريف الإنسان. نشأت هذه الفلسفة كرد فعل على التقاليد الإنسانية الكلاسيكية (Humanism) التي وضعت الإنسان محورًا للمعرفة والقيمة والمعنى، معززة بفكر التنوير الأوروبي ومرتكزة على العقل والعلم والسيطرة على الطبيعة.

إلا أن ما بعد الإنسان لا يعني ببساطة رفض هذه المقولات، بل يعيد تشكيلها في ضوء المتغيرات التكنولوجية، والبيئية، والرقمية، والميتافيزيقية التي باتت تؤثر على طريقة تموضع الإنسان في العالم. ففي قلب هذه الفلسفة يقف سؤالٌ مفصلي: ما الذي يبقى من الإنسان عندما يتلاشى مفهومه التقليدي وتُلغى الحدود الفاصلة بينه وبين الآلة، الحيوان، الكائنات الاصطناعية، أو حتى البيئات الرقمية؟
أحد أبرز محاور هذه الفلسفة هو تفكيك الثنائية الصارمة بين الإنسان وغير الإنسان، والتي لطالما حكمت الفلسفات الغربية منذ أفلاطون حتى ديكارت. ما بعد الإنسان يدعو إلى تجاوز هذه الانقسامات، ويقترح نموذجًا تعدديًا للعقل والكينونة، حيث لا يُنظر إلى الإنسان ككائن متفرد في العقلانية أو الأخلاق، بل كعقدة ضمن شبكة واسعة من العلاقات البيئية والتقنية والكوزمولوجية.

في هذا السياق، تتقاطع فلسفة ما بعد الإنسان مع تيارات مثل الأنطولوجيا التعددية، والنظرية الن. سوية الجديدة، ونقد الأنثروبوسين، وتسائل الحدود الأخلاقية والسياسية لتصنيف الكائنات. ليس المقصود من هذا التجاوز إنكار إنسانية الإنسان، بل فتح المجال أمام أشكال بديلة من الحياة والتفكير والكينونة قد لا تستجيب للمقاييس البشرية التقليدية.
أما من الجانب التكنولوجي، فقد أسهمت التطورات السريعة في الذكاء الاصطناعي، والهندسة الوراثية، والروبوتات، والنانو تكنولوجيا، والواقع الممتد، في تغذية الخيال الفلسفي لما بعد الإنسان. هنا، لا يُنظر إلى التكنولوجيا كأداة فحسب، بل كامتداد للكائن البشري، أو كعامل فاعل بحد ذاته قادر على إعادة تشكيل طبيعة الإنسان وأفقه التطوري. وقد ظهرت مفاهيم مثل “السايبورغ” (Cyborg) – الكائن الهجين بين الإنسان والآلة – و”الذكاء فوق البشري” (Superintelligence)، لتشير إلى إمكانات تتجاوز القدرات البيولوجية أو المعرفية الطبيعية.

ويزداد هذا التوجه عمقًا مع تحوّل الهوية الإنسانية إلى معطى رقمي يمكن تحميله، وتعديله، ونقله عبر وسائط جديدة، مما يثير أسئلة غير مسبوقة حول الجسد، والهوية، والحرية، والموت، والخلود.
لكن فلسفة ما بعد الإنسان ليست خطابًا احتفاليًا بالتكنولوجيا فحسب، بل تتضمن أيضًا نقدًا عميقًا للسلطة، والسيطرة، وعدم المساواة، التي قد تُنتجها هذه التحولات. إذ يُحذر بعض الفلاسفة من خطر تحويل الإنسان إلى “منتج” تقني، أو تقويض قيم العدالة والكرامة من خلال تسليع الكائن البشري أو فصله عن جذوره الاجتماعية والطبيعية. كما تتقاطع هذه المخاوف مع النقاشات البيئية حول مستقبل الأرض في ظل الهيمنة التكنولوجية والاستهلاك المفرط، حيث يدعو مفكرو ما بعد الإنسان إلى ما يُعرف بـ”التحول البيوسياسي” الذي يعيد إدماج الإنسان في شبكة الحياة بدل أن يضعه خارجها أو فوقها.
من ناحية أخرى، تقدم فلسفة ما بعد الإنسان إمكانًا جديدًا لفهم الأخلاق والوعي، ليس من منطلق التفوق البشري، بل من منظور تشاركي يُعلي من قيمة الآخر المختلف – سواء كان آلة واعية، أو حيوانًا ذكيًا، أو حتى بيئة طبيعية ذات حساسية. هذا التوسيع للمجال الأخلاقي يتحدى التصنيفات الثابتة ويقترح نموذجًا للمسؤولية يتجاوز الحدود الأنطولوجية بين الذات والغير. وبذلك، تتحول فلسفة ما بعد الإنسان إلى دعوة لإعادة تعريف الكينونة والسلطة والمعنى، ليس فقط من منطلق تجاوز الإنسان، بل من منطلق إعادة تخيله على نحو أكثر تواضعًا، تواصلاً، وتشاركية مع الوجود المتعدد.
إن أهمية هذه الفلسفة اليوم لا تكمن في بُعدها النظري فقط، بل في كونها تتيح لنا أدوات لفهم التحديات المعاصرة – من الذكاء الاصطناعي إلى التغير المناخي – ضمن أفق أنطولوجي وأخلاقي جديد. فهي تدفعنا للتفكير في ما يعنيه أن نكون بشرًا في عالم لم نعد نحتله وحدنا، بل نتقاسمه مع كائنات جديدة – بعضُها من صنع أيدينا، وبعضُها يسبقنا في التاريخ الكوني. وبينما ينهار المشروع الإنساني الكلاسيكي أمام هذه التحولات، تفتح فلسفة ما بعد الإنسان أفقًا فلسفيًا محفوفًا بالتحديات والفرص، يفرض علينا إعادة التفكير في طبيعة الإنسان، وحدود المعرفة، وأخلاق المستقبل.