نورالدين الحاتمي
على الرغم من أن الدكتور “طه عبد الرحمان” فيلسوف لا يشق له غبار و مفكر كبير و صدرت له أعمال فلسفية عميقة و جديرة بأن تحمل وصفها ك “العمل الديني و تجديد العقل” و “أصول الحوار…” إلا أن كتاباته لم تحظ بالاهتمام و الرعاية، إلا بعد أن انتصب للرد على المفكر العربي الكبير “محمد عابد الجابري” و بيان اوجه القصور في معماره النقدي الذي خص به “نقد العقل العربي” تكوينا و بنية، و لذلك يصح القول أن شهرة طه عبد الرحمان تعود في جزء كبير منها إلى شهرة الجابري رحمه الله، إذ الرد على الشهير أدعى بأن تجعل الراد مشهورا بشهرة المردود عليه، ولذلك لم يتعرف القارئ العربي عليه و على إنتاجاته، إلا بعد صدور كتابه “تقويم المنهج في تجديد التراث” الذي نقد فيه “الجابري” و انتقده.
و إذا كان “طه عبد الرحمان” قد دشن القول في مشروعه الفلسفي المثير في إبانه: “فقه الفلسفة” الذي يمكن عده، بحق، “ثورة تجديدية” في الخطاب و القول الفلسفيين، لأنه رافع فيه من أجل إعادة الاعتبار لفعل التفلسف و روحه و التعالي بهما إلى ما يليق بهما من التجريد” بعد أن كان “المتفلسف العربي” قد أفقدهما عمقهما و حط منهما إذ زاوج بينها، أي الفلسفة، و بين التاريخ، أو بينها و بين السياسة، و أفقدها “اصالتها” حيث أن جل إنتاجاته و أعماله الفلسفية مجرد تقليد ونسخ لما يصدر في الغرب، كما لاحظ هذا الفيلسوف ـ وهو محق ـ في غير واحد من كتاباته “.
و الحق أن هذا المشروع “الأصيل” جاء فيه ” طه عبد الرحمان” بما لم يسبق إليه، و بناه بصيغة فيها الكثير من الإبداع و الابتكار الفلسفيين، و هذا ما فسر التعاطي اللافت للنقاد العرب معه، حيث انشغلوا به، واشتغلوا عليه دراسة و تحليلا و نقدا.
و إذا كان مشروع “طه عبد الرحمان” الفلسفي قد “أسكر” المهتمين بالفلسفة العربية و الإسلامية لأكثر من عقدين و “أرهبهم” إلا اننا نستطيع أن نقول أن هذا المشروع الفلسفي “الضخم” و الذي كان يبشر بفتح عهد جديد للفلسفة العربية تستعيد فيه أصالتها و قوتها، كأنه ولد ميتا أو قتل في مهده، بحيث أن طلبة الرجل انفسهم و مقلديه توقفوا عند حد إبداء الإعجاب به و الإشادة بأعماله، و التبشير بها، و لم يسيروا بسيره أو ينسجوا على منواله.
بل إن هذا الفيلسوف نفسه توقف عن المضي في طريق التأصيل لتلك الفلسفة الواعدة، التي أرادها ميلادا لتفلسف عربي حقيق بأن يحمل صفته، و انتقل للانشغال بالقضايا الإيديولوجية أو “الفكرانية” ـ كما يحلو له أن يقول ـ و فق “النظرية الائتمانية”، التي صاغها مؤخرا، والاشتغال عليها، و المرافعة من أجلها وفي سبيلها، فاستغرق في نقد “الدهرانية” وبيان بؤسها و تهافتها.
و إذا كان هذا الفيلسوف الواعد قد تراجع عن طموحه، الذي هو الارتقاء بالفلسفة إلى المقام المطلوب، و صار يشتغل بالقضايا والإشكالات “الفكرانية” و انطلاقا من المرجعية “الفكرانية” أيضا، و على ضوئها، وفي أفقها، فإنه في كتابه “ثغور المرابطة” وفي القسم المخصص للقضية الفلسطينية عامة، و بيت المقدس خاصة، قد نزل بالفلسفة درجة، و حط من شموخها.
قال هذا المفكر الفيلسوف أنه سيفكر في القضية الفلسطينية من موقع الفيلسوف وبأسلوبه، أي” على مقتضى التأمل الفلسفي المبني على القيم و ليس على مقتضى التكهن السياسي المبني على المصالح” كما قال ان خوضه في المسألة لن يكون كخوض من سواه، لأنه لا أحد من المفكرين و الكتاب الباحثين قارب هذا الموضوع مقاربة فلسفية.
والحال أننا ما كنا لنقف عند هذا الكتاب لولا أنه أشار إلى هذه القضية بالذات، اي قراءته للمعضلة، قراءة فلسفية، مختلفة و مغايرة للقراءات التي عودنا عليها المفكرون و الكتاب العرب.
إن القراءة الأولية للكتاب تبين أنه ليس كما أراده صاحبه، و لا يتوفر على ما يسند ادعاءه و يؤكده، بل على العكس من ذلك، يكاد يتضح منه أن الفلسفة برمتها وبشموخها لا تضيف شيئا في هذا المجال، و أن الفيلسوف بشموخه أيضا لا يزيد عن “الرجل العادي” في الوعي بهذا الموضوع.
يقول طه عبد الرحمان أن أرض فلسطين هي “ملتقى العوالم”: الغيب و الشهادة، و إرث الإنسان الفلسطيني هو “ملتقى الابعاد”: الزمني و السرمدي، كما يقول. وبما أن هذه الأرض أرض مباركة، فإن احتلالها من قبل الكيان الصهيوني إيذاء للذي باركها، أي الله، و إيذاء أيضا للإرث الذي أنتجته فطرة الإنسان الفلسطيني.
ويمضي “فقيه الفلسفة” في شرحه للموضوع بلغته الفريدة و الفخمة، ويسمي احتلال الارض “إحلالا” و احتلال الفطرة و تشويه الإرث “حلولا” و الغاية من هذا الأخير “إفساد الذاكرة” و “اختلال علاقة الفلسطيني بماضيه” و هما مترابطان ترابط معلول بعلة، و”إفساد الثقة بالذات” إي الشعور بعدم القدرة على مواجهة العدوان و رفع الظلم و التصدي له.
ثم راح يفضح “التطبيع” و”المطبع” معتبرا “التطبيع” تضييعا للطبيعة ـ حسب مقتضى اللغة العربية ـ و تضييعا للروح و القداسة وغيرهما، و معتبرا “المطبع” لا يخجل من ربه و لا يتردد في معصيته و يسعى إلى التغرير بالآخرين و إضلالهم حتى يكونوا مثله بل و يدافع عن موقفه المخزي و الذليل.
إذا اكتفينا بهذا القدر، سيكون من حقنا أن نتساءل عن الجديد الفلسفي الذي بشر به “فقيه الفلسفة”. أي أين تبدو ملامح التناول الفلسفي غير المسبوق في هذا الكتاب؟ ما هي أوجه الاختلاف بين لوني التناول للمعضلة: تناول طه عبد الرحمان و تناول غيره من الباحثين و المفكرين العرب؟
إن المسلم “العادي” أي غير الفيلسوف، يدرك ذلك و يعيه جيدا: يدرك أن الوقوع في المحرمات[ أيا كانت] إيذاء لله الذي جعلها كذلك، و احتلال فلسطين عدوان على أرض الإسلام، و بالتالي، إيذاء لله. واحتلال أية ارض في العالم، إيذاء لصاحبها.
و هذه قضايا يستوي في العلم بها العالم و غير العالم، و القوى الاستعمارية في العالم، و عبر التاريخ، كانت تسعى إلى تبرير احتلالها لأرض الغير، بتزوير التاريخ وقلب المعطيات و “الحقائق العلمية” و في هذا “إفساد للذاكرة” كما هو معلوم، ويسعى إلى إحباط المقاومة والفت في عضدها، ببث الأراجيف و الاكاذيب، والترويج للقوة المحتلة و إبرازها كقوة لا تقهر و لا تغلب، والغرض من ذلك طبعا، هو إفساد الثقة في الذات” و بالتالي، الاستسلام و القبول بالأمر الواقع، و الأمر هنا واضح وضوح الشمس في رابعة النهارـ كما تقول العرب ـ و لا يحتاج إلى اجتراح عبارات جديدة، في اللسان العربي ما يغني عنها.
كما أن المسلم “العادي” يؤمن إيمانا صادقا و قويا، بأن الحاكم المطبع خائن لله و خائن لأمته، و للتاريخ، و يدرك إدراكا واضحا أيضا، أنه يسخر أبواقه للدفاع عن سياسته القبيحة و المرفوضة إسلاميا و عربيا و شعبيا، و غرضه إقناع الناس حتى يكونوا مثله، لان خسته و نذالته و حقارته تنعكس على مرآة رفض الشعوب و ممانعتها، و لذلك ورد في الاثر “ودت الزانية لو أن النساء كلهن يزنين” ويدرك المسلم أن التطبيع، إذا كان المراد به جعل العلاقة بين قوى الاحتلال و الأرض المحتلة علاقة عادية و طبيعية، فإن هذا نقيض للطبعي و مضاد له، لأن الطبعي في هذا الأمر، هو العمل على تحرير الأرض المغتصبة و طرد القوى المحتلة، و ليس المصالحة معه و الاعتراف به و التعامل معه كأمر واقع.
إن الذي يتأمل الكتابة الفلسفية لـ”طه عبد الرحمان” حول هذا الموضوع، يتبين له أن التفلسف هنا و بطريقة هذا الفيلسوف وبأسلوبه لا ضرورة لهما و لا قيمة، اللهم إلا إذا كانت قيمة التفلسف تكمن، فقط، في اللغة المسبوكة التي يمتاز بها الرجل وفي التفريعات و التقسيمات التي يجيدها بفعل تكوينه المنطقي وتفننه في صناعته.
إن التأمل الفلسفي الذي بشر به الرجل هنا لم يضف شيئا و لم يزد، بل إنه يأتي بنتائج عكسية، أي ضد المراد، لأن هذا التناول الفلسفي من البرودة بحيث لا يؤثر في القارئ العربي و المسلم و لا يحرضه، بل يستفزه ببرودته، و إذا كان هناك من فائدة فإنها ذلك الانتقال بالمعلومات التي يعلمها المسلم “العادي” و يؤمن بها حتى النخاع، إلى مفردات فخمة و عبارات ضخمة، لا تسمن ولا تغني من جوع.
صحيح أن هذا الفيلسوف رجل منطقي و هو متمكن من صناعته و متفنن فيها، و اعماله الفلسفية “الخالصة” تشهد له بذلك، ولكن العلاقات الدولية لا يحكمها ذلك المنطق الذي درسه حتى برز فيه، و إنما يحكمها منطق آخر و مغاير و التدافع بين الأمم لا يضبطه ذلك المنطق الذي أتقنه و ألف فيه و لكنه يضبطه منطق مباين و مختلف. إنه منطق القوة الذي يسير العالم و ينظمه وليست قوة المنطق.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15964