ولهذا فإن التعايش الديني، يعد اليوم مطلبا أساسيا تفرضه التحولات المتسارعة التي تعرفها المجتمعات العربية الإسلامية، وسؤالا ملحّاً يسائل الأفراد والجماعات عن مدى رفضهم أو قبولهم بالتعدّدية الدينية، وكيفية بنائهم لمواقفهم تجاه الآخر المختلف عنهم من الناحية العقدية؛ فأسس الحوار والتعايش بين الأديان تنبني بالأساس على نبذ العنف والتطرف والتشدد، والقبول بالآخر، ومعاملته بالمثل، مع الاحترام الكامل لكل الاختلافات بين الأديان، والقبول غير المشروط بهذا المشترك الإنساني.
إن ما يُنسب إلى الأديان من عنف، وما ارتكب باسمها قديما أو حديثا، حسب العديد من المتخصصين في علم مقارنة الأديان، لا يعدو أن يكون مجرد قراءة معينة للنص الديني، وتأويل له، لأنه لا يعقل أن يكون الدين، بكل خطاباته التي تدعو إلى السلم والحب والخير والتعايش، سببا في اقتتال أتباعه، وتصفية من يخالفهم في العقيدة، والدين الإسلامي خير دليل على ذلك، لأنه لا ينكر الأديان الأخرى، بل يشجع التعايش معها في أمان وسلام؛ فقد عقد الرسول – صلى الله عليه وسلم – العهود والمواثيق مع اليهود، التي تضع أسس العيش المشترك، كما أن الدين المسيحي لم يختر المحبة كشعار رئيس له عبثا؛ فالإنجيل يزخر بالتعاليم التي تلزم المسيحيين بالتعامل مع بقية أبناء الأديان الأخرى بالمحبة والتسامح، وعدم نبذ الآخر المختلف عقيدة ولونا وشكلا.
وعلى الرغم من التعاليم الدينية السمحة لكل الديانات السماوية، والتي حثت على الحياة الإنسانية المشتركة، فإن الواقع كان عنيفا، طغت فيه المصالح التي لا تمت إلى الإنسانية بأية صلة، وعاشت العديد من الحضارات صراعات دموية كان من الممكن تجنبها، أو الحد من همجيتها بنشر قيم التسامح والتعايش الديني، ولكن أوارها كان أشد من تلك القيم السمحة، وهو ما كبد المجتمعات خسارات مادية وروحية كبيرة؛ حيث انهارت حضارات بأكملها، وزهقت أرواح الملايين، وما تزال تزهق إلى حد الآن تحت ذرائع لا علاقة لها بالدين، وإنما بأشكال التدين، التي ولدت لدى الغرب تحديدا فوبيا كبيرة من الإسلام نطلق عليها “الإسلاموفوبيا”.
وبناء على ما سبق، ارتأت مجلة “ذوات” الثقافية العربية الإلكترونية الشهرية، الصادرة عن مؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”، تخصيص ملف عددها (58) لموضوع “التعايش الديني…رهان التعدّدية والهوية الجامعة”، لتسليط الضوء على هذا الموضوع القديم/ الجديد، ومحاولة تقديم بعض الإجابات عن كثير من التساؤلات، التي يطرحها هذا الملف، وهي كالتالي: ما هو واقع التعايش الديني في العالم العربي؟ وهل المجتمعات العربية متسامحة دينيا مع الآخر المختلف عنها من الناحية العقدية؟ وأين يبرز هذا التسامح وأين يختفي؟ وهل يشكل الانتماء الديني/العقدي دورا في تحقيقه أو نفيه؟ وهل لمفاهيم السّلم والحرب والولاء والبراء والكفر والإيمان، أيّ دور في تعزيز حالة الانغلاق ورفض التسامح الديني؟ وما هي ممكنات وصعوبات هذا التعايش؟
وهكذا، يتضمن ملف العدد (58) من مجلة “ذوات”، الذي أعده الباحث المغربي محمد قنفودي، المتخصص في علم الاجتماع، مقالا تقديميا له بعنوان: “التعايش الديني: انتقال مجتمعي وعبور نحو المدنية”، وثلاث مساهمات، الأولى بعنوان: “استرجاع الهويات ومستقبل التعايش”، وهي للباحث الأكاديمي المغربي خالد الشيات؛ والثانية للأكاديمي والشاعر العراقي المقيم بأوروبا ناظم عودة، المعنونة بـ “الانشطارُ المذهبيّ في العراق، الصراع الطائفيّ وأفق التعايش: مقّدمة سوسيولوجية للنزاع”؛ والمساهمة الثالثة للباحثة والأكاديمية السورية يسرى وجيه السعيد، المعنونة بـ “في مفهوم التعايش الديني: الماضي والحاضر والآفاق المستقبلية”.
أما حوار الملف، فهو مع الباحث الجزائري كمال طيرشي، وهو متحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة باتنة (الجزائر) تخصص فلسفة غربية معاصرة عن أطروحة بعنوان: “منزلة الدين في فلسفة سورين كيرككورد”، كما أن له كتبا ومقالات منشورة، حيث ارتكز الحوار مع الباحث، عن مفهوم التعايش الديني في العالم العربي، وممكنات وصعوبات هذا التعايش، وأيضا عن واقعه، وهل الخطاب المتداول اليوم يسهم في عكس صورة إيجابية على تعايش المذاهب والديانات مع بعضها البعص، أم يمكن اعتباره محاولة لتجاوز حالة التشنج التديني والتعصب الطائفي، حيث استفاض الدكتور طيرشي في أجوبته، مقدّما توصيفا تحليليا ونقديا لهذا المفهوم ضمن البيئة العربية.
وبالإضافة إلى الملف، يتضمن العدد (58) من مجلة “ذوات” أبوابا أخرى، منها باب “رأي ذوات”، ويضم ثلاثة مقالات: “أن نتعايـــــش” للكاتب والباحث المصري الدكتور محمود كيشانه، و”التعايش الديني بين كونيَّة الدين وخصوصيَّة العقيدة” للكاتب والباحث المغربي إسماعيل بوزيد، و”مجتمعات البرزخ بين “جحيم” الآخر و”جحيم” الذات” للكاتب والروائي السوري جادالله الجباعي؛ ويشتمل باب “ثقافة وفنون” على مقالين: الأول للكاتبة والأـكاديمية العراقية نادية هناوي سعدون، بعنوان “مدرسة فاضل ثامر النقدية”، والثاني للناقد والشاعر المغربي إسماعيل علالي، بعنوان “كيف نقرأ عبد السّلام بوحجر؟ مداخل جمالية في شعرية شاعر الجماليات العليا”.
ويقدم باب “حوار ذوات”، لقاء مع الباحث والأكاديمي المغربي عادل حدجامي، المتخصص في الفكر والفلسفة، والأستاذ المحاضر في الفلسفة الحديثة والمعاصرة بشعبة الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، حول الفلسفة والدرس الفلسفي، ووضع الجامعة، والرهان اللغوي المطروح اليوم بالمغرب. فيما يقدم “بورتريه ذوات” لهذا العدد، صورة عن المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، صاحب “النقد المزدوج” و”الاسم العربي الجريح”، الذي خلخل العديد من الثوابت وقدم فكرا مغايرا، تفكيرا في الاختلاف المنسي، والتراث المتعدد، والأسئلة المغمورة، وقد كان رهان الخطيبي من هذا المسعى هو بعث الاختلاف المنسي، والفكر المتعدد، واجتراح مسارب للمغايرة، من أجل التحرر من شرنقة الميتافيزيقا التي سعى الخطيبي إلى مجاوزتها، مستثمرا في ذلك مكتسبات الفكر المعاصر، الذي ما فتئ يعمل على تقويض كياناتها، وتفكيك وحداتها. البورتريه من إنجاز الكاتب والباحث المغربي عبد الرحيم رجراحي.
وفي باب “سؤال ذوات”، يستقرئ الكاتب والإعلامي التونسي عيسى جابلي آراء مجموعة من الباحثين والكتاب العرب حول سؤال: هل يؤمن العالم العربي بقيم التسامح والتعايش الديني؟ وفي باب “تربية وتعليم” يتناول الباحث التربوي التونسي مصدق الجليدي موضوع “الجودة التربوية: أصنافها – مبادئها – معاييرها – تطبيقاتها”، فيما يقدم الكاتب والباحث العراقي رسول محمد رسول، قراءة في ترجمة الدكتور محجوب لكتاب مارتن هيدغر المعنون بـ “الأنتولوجيا.. تأويليات الحدثيّة”، الصادرة عن “دار مؤمنون بلا حدود” عام 2019، وذلك في باب كتب، والذي يتضمن أيضاً تقديماً لبعض الإصدارات الجديدة لمؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”، إضافة إلى لغة الأرقام، المخصصة لموقع الجامعات العربية في التصنيف العالمي (تقرير مجلة “تايمز للتعليم العالي” الأمريكية، و تصنيف Quacquarelli Symonds البريطاني لأفضل ألف جامعة حول العالم للعام 2020).
سعيدة شريف
المصدر : https://dinpresse.net/?p=4211