محمد خياري
في ردهةٍ منسية من إحدى الإدارات العتيقة، جلست “ليلى” على كرسي خشبيٍ مهترئ، تتأمل الجدار الذي يحمل صورةً باهتة للملك، وإلى جانبها سبحة معلّقة على مسمار، كأنها تراقب الداخلين والخارجين. كانت تنتظر لقاءً مع رجلٍ يُقال إنه “مستشار في شؤون الرموز”، رجلٌ غامض، لا يُعرف له منصبٌ رسمي، لكنه حاضرٌ في كل قرارٍ غير معلن.
دخل الرجل، بلباسٍ بسيط، يحمل كتابًا مفتوحًا، وعيناه تلمعان بهدوءٍ لا يخلو من تحدٍ. لم يكن في وجهه ما يُشبه السلطة، لكن في صمته ما يُشبه الدولة.
قالت له دون مقدمات:
ـ كفى من الطقوس! كفى من الرموز! كفى من الانحناءات!
أريد حقوقي، لا خرافات. أريد قانونًا، لا سبحة. أريد مستشفى، لا مرآةً مكسورة.
أجابها بابتسامةٍ باردة:
ـ الردّ، يا بنيتي، لا يُقال، بل يُفهم.
الحقّ بلا سياق كالمفتاح بلا باب، يفتح الريح، ولا يُغلق الظلم.
رفعت حاجبيها ساخرة:
ـ كلامٌ صوفيّ لا يُسمن ولا يُغني من حرية!
أنا أريد دستورًا، لا فانوسًا. أريد أن أُعامل كمواطنة، لا كظلٍّ في طقسٍ لا أفهمه.
اقترب منها، وقال بنبرةٍ هادئة:
ـ وهل يُكتب الدستور بلا لغة؟
هل يُطبّق القانون بلا شرعية؟
الرمز، يا ليلى، ليس زينةً ماضوية، بل لغة الدولة حين تصمت، وصوتها حين تتكلم دون أن تصرخ.
سكتت للحظة، ثم قالت:
ـ لكنني أريد أن أكون حرّة!
ردّ عليها:
ـ الحرية لا تعني أن تخلعي جلدك، بل أن تفهميه، أن تُعيدي تأويله، أن تُلبسيه بلونٍ يناسبك.
الحرية ليست قطيعة، بل استمراريةٌ واعية.
والعقلانية ليست نكرانًا، بل فهمٌ للسياق.
نظرت إليه بعينين متعبتين:
ـ سئمت من الانحناءات، من البيعة، من التقاليد.
قال لها وهو يضع يده على قلبه:
ـ البيعة ليست عبودية، بل عقدٌ روحي.
الانحناءة ليست سقوطًا، بل خشوعٌ أمام فكرةٍ تتجاوزك.
والطقوس ليست خرافة، بل لغةٌ تُخاطب بها الدولة شعبها، تُؤسس بها شرعيتها، تُمارس بها سلطتها، وتُعبّر بها عن روحها.
سألته فجأة:
ـ ومن أنت؟
أجابها:
ـ أنا أنتِ، حين تفهمين.
أنا الدولة، حين تُصالح بين العقل والرمز، بين القانون والوجدان، بين الفرد والجماعة.
ترددت، ثم سألت:
ـ هل يمكن أن أطالب بالحقوق دون أن أُقصي الرموز؟
هل يمكن أن أكون حداثية دون أن أقطع الجذور؟
هل يمكن أن أكون عقلانية دون أن أُجفّف الذاكرة؟
ابتسم وقال:
ـ حين تفهمين هذا، تبدأ الدولة.
وحين تُصغين، تبدأ الحرية.
وحين تُنصفين، تبدأ العدالة.
وحين تُضيئين، يبدأ المغرب.
تقدّم نحوها، ووضع الكتاب بين يديها. كان مفتوحًا على صفحةٍ تحمل عبارة:
“حين تُصغي الدولة لصمتها، تُصبح حضارة.”
همست:
ـ ربما كنتُ أصرخ لأنني لم أُصغِ.
ربما كنتُ أُطالب لأنني لم أفهم.
ربما كنتُ أُقصي لأنني لم أُبصر.
ثم كتبت على هامش الصفحة:
“أنا مواطنةٌ تُطالب بالحقوق،
لكنني لا أُقصي الرموز،
ولا أُشيطن التقاليد،
ولا أُقدّس الحداثة،
ولا أُقلّد الغرب،
ولا أُجفّف الذاكرة.
نظر إليها وقال:
ـ الدولة ليست متحفًا، بل كائنٌ حيّ.
تتطوّر حين يتطوّر المجتمع،
وتتعفّن حين يتعفّن،
وتُضيء حين يُضيء.
لكنها لا تُضيء حين يُقصى الرمز،
ولا تُشفى حين يُجلد التراث،
ولا تُبنى حين يُقلّد الآخر.
أغلقت الكتاب، ونظرت إليه بعينٍ جديدة. لم تعد تراه خصمًا، بل مرآةً أخرى.
في تلك اللحظة، لم تكن الدولة هي من تتكلم، بل الحضارة التي تُصغي