محمد بشاري
سيدي جمال الدين القادري البودشيشي: سليل السرّ، ووارث النور، ورحيل في سكينة العارفين
في يومٍ تتعانق فيه الأرض بالسماء، وتنبسط فيه الروح نحو بارئها كما ينبسط النسيم على شجر الزيتون، رحل عن دنيانا الشيخ سيدي جمال الدين القادري البودشيشي، شيخ الزاوية القادرية البودشيشية، وذلك يوم الجمعة 8 غشت 2025، عن عمر ناهز الثلاثة والثمانين عامًا، في المستشفى العسكري بالرباط، بعد أن أدّى أمانة السرّ، وبلّغ مقام الولاية، وأسّس لوراثة روحية متجددة لا تنقطع بانتقال الأجساد، بل تتجدّد بالأنفاس والوصايا.
ولد الشيخ جمال القادري في بيتٍ عريق من بيوت العلم والتصوف، ينتمي إلى الشجرة النبوية الممتدة، إذ هو ابن الشيخ حمزة القادري البودشيشي (1922–2017)، وحفيد الشيخ سيدي بومدين القادري، وكلّهم سَدنةٌ على الطريق، عُرِفوا بإحياء السنة وإماتة البدعة، وتخريج المريدين على منهاج السلوك لا على فتنة التسلّق.
وُلد الشيخ جمال على خطى الوراثة الروحية في الزاوية الأم بـ”مداغ” في إقليم بركان، حيث تلقّى علوم القرآن، وحفظ المتون الصوفية، ونهل من بحار والده سيدي حمزة، لا بالوراثة الشكلية، بل بالصحبة، والتزكية، وخدمة الفقراء. فمنذ صباه، كان يرافق والده في مجالس الذكر، ويعمل بصمتٍ في تثبيت حلقات الذكر في المدن الكبرى، وتأسيس العلاقات الدولية للطريقة دون ضجيج أو استعراض.
حين انتقل والده الشيخ حمزة إلى الرفيق الأعلى سنة 2017، كانت الطريقة أمام مفترق طرق. لكن الفقيد جمال الدين لم يعلن نفسه شيخًا، بل قدّم وصية والده المكتوبة سنة 1990، والتي خُصّصت له بالخلافة. ولم يكن هذا الإعلان سعيًا للسلطة، بل إذعانًا للسرّ، واستمرارًا لما وصفه الشيخ حمزة بأنه “سند من النبوة، لا من النسب فقط”.
وقد برزت شخصية الشيخ جمال عبر سبع سنوات من المشيخة بالهدوء والتدرّج. لم يكن خطيبًا، ولا متصدّرًا في الإعلام، لكنه كان نبعًا يُقصد، ومرسىً ترتاح فيه السفن. تولّى ضبط النَّسق الداخلي للطريقة، وحافظ على هيبة الذكر الجماعي، وحثّ أبناء الطريق على التربية القلبية بدل الاستعراض الاجتماعي. ومن أبرز أعماله خلال مشيخته:
1. تثبيت السرّ الروحي في شخص ابنه سيدي منير القادري، العارف، والداعية، والمفكر الذي تولّى نشر التصوف العلمي، وربط السلوك بالمؤسسات العلمية والأكاديمية.
2. تدبير الانتقال الروحي السلس، حيث أعلن خلال الذكرى السنوية لوفاة والده في يناير 2025 عن انتقال “الأمانة” إلى نجله منير، في لحظة صوفية حضرها أهل الطريق من داخل المغرب وخارجه.
3. تحصين الخطاب الصوفي من الانجرار وراء الواجهات السياسية أو المزايدات الإعلامية، مما جعل الطريقة تحافظ على توازنها في بيئة دينية مضطربة.
4. التمسك بالمرجعية الملكية، حيث ظلت الزاوية متشبثة بالبيعة الشرعية لإمارة المؤمنين، معتبرة أن التصوف المغربي الأصيل لا ينفصل عن نظام الإمامة الشرعية.
لكن الشيخ جمال، على هدوئه، لم يكن غافلًا عن التحولات. ففي السنوات الأخيرة، أفسح المجال لتجديد الخطاب الصوفي من خلال تكوين الشباب على مفاهيم العقل الروحي، وتهذيب النفس، والتجديد المقاصدي للسلوك، وهو ما عبّر عنه مرارًا نجله الدكتور منير القادري في الندوات الدولية.
وحين دنت ساعة الرحيل، كان سيدي جمال قد هيّأ كل شيء: سلّم السر، أعدّ المريدين، رتّب التراتيب، واستراح إلى الذكر. وفاته لم تكن مفاجأة، بل كانت ختمًا لرحلة ملأها بالصمت الناطق، والحضور الصامت، والعطاء الذي لا يُشهر نفسه. مات كما عاش: في ظلال الحضرة، وتحت أقدام “أهل الله”، مغمورًا بالدعاء، ومحمولًا على الأكف في مداغ، حيث دفن إلى جوار والده.
ليس الشيخ جمال ظاهرة إعلامية، ولا عنوانًا لإحياء الطقوس، بل هو نسقٌ من السكينة، ومرآة لما يمكن أن يكون عليه الشيخ الصوفي المعاصر: رجلُ ظلٍ لا يزاحم، لكنه يُضيء. ومن هنا نفهم وصيته الروحية بأن تظل الزاوية وفيةً للمقصد الأصلي: أن تكون وسيلة لتزكية النفوس، لا وسيلة للتسلط على العقول.
وفي رحيله، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستظل الزوايا الصوفية وفية لهذا الخط الذي مثّله جمال القادري: لا صراع، لا رياء، لا تشهير، بل حبّ، وسير، ووفاء؟ وهل يدرك من هم خارج الطريق، أن في هذا النموذج الصوفي أفقًا لإصلاح النفوس، قبل الأنظمة، وبناء الإنسان قبل الدولة؟
⸻
رحم الله الشيخ جمال الدين القادري البودشيشي، وطيّب ثراه، وجزاه عن المحبة والخدمة خير الجزاء.