ادريس هاني
لازال يعبّر ترامب عن جهل عارم بتعقيدات الشرق الأوسط، لا أحد يدري أي نوع من الضغوط تمارس عليه ومن قبل من؟ هذا يؤكّد على أنّه لا يكفي أن نكون ديمقراطيين بينما صناديق الاقتراع تأتي بالحمقى، سيتفجّر قريبا ذلك النزاع المولد بين ترامب ومستشاره المغضوب عليه بولتن الذي منع البيت الأبيض هذا الأخير من نشر كتابه الذي يتضمن حديثا عن قصة قرار إيقاف ترامب المساعدات العسكرية عن أوكرانيا قبل أن يكشف عن وثائق لإدانة منافسه جان بايدن، القصة ستظهر اليوم: التصويت على منع ترامب من اتخاذ قرار الحرب على هامش تداعيات قرار اغتيال اللواء سليماني وأبي مهدي المهندس، لازال ترامب حتى الآن يقدم بولتن كفزاعة، ففي نظره لو أطاعه لحدثت حرب عالمية، لكن من أجبر رئيسا على تنفيذ رأيا استشاريّا، وهل هذا جواب على تهمة الشطط واستغلال النفوذ في العملية الإنتخابية؟
كلّ ما يقوم به ترامب هو مؤقّت وشكل من الإرغام لأنه يريد أن يخرج من البيت الأبيض وقد حقق إنجازات، ولا يهم كيف تكون تلك الإنجازات، فعقلية المقاولة بلغت ذروتها عند مفهوم المال مقابل الأرض في صفقة القرن التي ولدت ميتة ولا تصلح حتى للسّرد التّاريخي، قريبا سيصبح ترامب رئيسا سابقا، وتتبخّر كلّ حكايته، لأنّها تنتمي لخيال رعاة البقر، أي كيف نقرر بدل الشعوب ونمنح الأرض لمن نريد، لقد نجح ترامب في إخراج الولايات المتحدة الأمريكية من موقع وسيط للسلام بين طرفين إلى قائد معركة منحاز حدّ الشّطط، وهو هنا يسدد ضربة قاضية في تاريخ من التسويات كان من الصعوبة التحلل منها، اليوم لم يعد أمام الفلسطيني بما فيه السلطة التعويل على أوسلو، لقد حررتهم منها صفقة القرن، وعبّر ترامب بوضوح عن حدود إسرائيل غير المعلن عنها، فلا زال ترامب يلوح للفلسطيني بأنّ صفقة القرن هي فرصة وبأنه إن لم تقبل بها سننزل في نوع من المشاطرة ونخفّض الثّمن، يفترض ترامب أنّ الشرق الأوسط الذي يجهله ويعتمد في معرفته على نتنياهو هو سوق خردة وليس مجالا للإرادات، يستطيع ترامب أن يغير من أجل الصفقة حتى الجغرافيا الروحية، يستطيع -وبسخرية – أن ينشيء الفلسطيني مدينة جديدة ويطلق عليها القدس، الرداءة وتجاهل كرامة الشعوب وحقائق التاريخ، ولا شك أن أسلوب استعراضيا كالذي زفّت به صفقة القرن أمام الرأي العام لن تكون سوى عنوان استفزاز لا مسؤول يهدد استقرار المنطقة، إنه بالفعل لا يحتاج إلى بولتن لكي يشعل حربا عالمية جديدة.
شكّل الحديث عن صفقة القرن إحراجا للمنطقة بمن فيها حلفاؤه في ابتزاز بليد جعل رئيس السلطة نفسه ينتفض وهو يقترب ويذكّر بعبارة أبي عمّار الذي ساير التسويات حتى واجه الباب المسدود: شهيد، شهيد، شهيد. وحدة الفلسطينيين هي الوجه الآخر لإيجابية الصفقة.
إنّ إعلان ترامب عن صفقة القرن بغضّ النظر عن أنها تحيلنا إلى رسم أحمق والفن المريض لمرسيل ريجا (l’Art malade : dessins de fous)، فهي توثّق لحالة من الهروب على الطريقة الإمريكية، هناك محاولة لصناعة رجل قشّ أمريكي لتحمّل تبعات الأخطاء، إنّ صفقة القرن هي إلهاء تدرك واشنطن قبل إسرائيل بأنّها صفقة هروب وتشويش وليس صفقة للسلام لأنّها منحت إسرائيل ما لم تمنحها إيهاها كل الحروب، وأعتقد أنّ صفقة القرن تشبه إملاء لشروط غالب لا زال يجر هزائمه في الشرق الأوسط، ولو أطلقت واشنطن وإسرائيل القنبلة النووية فوق رؤوس الفلسطينيين – إن أمكن ذلك – فلن تجد من يقبل بصفقة القرن التي تصلح فقط لقياس مقدار الحماقة في الخطاب السياسي وبأنّ هناك شيء يفرض كل هذا الإنزياح ، هو الإفلاس السياسي والخوف من مصير الانتخابات، إنّه شكل من التواهم بين ترامب ونتنياهو لم يعد مقنعا ولا حتى قادرا على تدبير الحرب النّفسية.
صفقة القرن مناورة، وهي مؤشّر عن بدء التفكير الجدّي في الهروب من الشّرق الأوسط، لا تستحقّ صفقة القرن كلّ هذا الجدل، فهي لا تحمل ما يدعو للنّقاش بقدر ما هي عناد على طريق الحرب النّفسية، مشروع لا يصلح حتى قصة في والت ديزني.
هناك تحوّلات كبيرة تنتظر المنطقة وهي ستأتي بغتة حتى أنّنا سنفاجأ بالحدث، لماذا حدث وكيف حدث وبأي بساطة حدث، لا شيء يحدد آفاق ومآلات الأمور خارج تفاصيل حرب الإرادات..
المصدر : https://dinpresse.net/?p=6697