صلاح الدين المراكشي
د.صلاح الدين المراكشي إمام ومرشد في المستشفيات والسجون الفرنسية
في عصر تتقاطع فيه الأصوات وتتزاحم فيه الأفكار والآراء عبر الفضائيات، والشبكات الرقمية، لم يعد الناس مقيدين بحدود جغرافية أو حواجز لغوية في تلقي الخطاب الديني.
غير أن هذا الاتساع المعرفي يثير تحدياً أساسياً: كيف نضمن أن يكون الشأن الديني ملائماً لواقع الناس وظروفهم الخاصة؟
وهنا استحضر الحكمة العربية العميقة: “أهل مكة أدرى بشعابها”.
فكما أن أهل مكة أقدر الناس على معرفة طرق جبالها ومسالكها الوعرة، فإن علماء كل بلد هم الأدرى بتفاصيل واقعه، الأقدر على إدراك خصوصياته الاجتماعية والثقافية، والأجدر بتنزيل النصوص الشرعية على مشكلات أهله بما يحقق مقاصد الدين ويصون المصالح.
وقد عبّر المناطقة والفقهاء عن هذا المعنى بقولهم: “ الحكم على الشيء فرع عن تصوره”. ورغم أن هذه العبارة ليست حديثاً نبوياً، فإنها أصبحت قاعدة راسخة في المنطق والفقه، استثمرها العلماء في تعاملهم مع النوازل والمستجدات. ومن هنا جاء القول المشهور: “لا يُفتى ومالك في المدينة”، أي لا يُقدَّم أحد على الإمام مالك في الفتوى داخل المدينة المنورة، لأنه الأعلم بحديثها وأعرافها وسياقهاوقد أكد ابن القيم رحمه الله هذا الأصل بقوله: “الفتوى تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان والأحوال والنيات والعوائد” (إعلام الموقعين 3/14).
انطلاقًا من هذا الفهم العميق وإيمانها الراسخ بأهميته، نجد على سبيل المثال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية – وبتوجيه كريم من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله – أدركت الوزارة ومنذ أمد ضرورة ربط الشأن الديني بسياقه المحلي، سواء داخل المغرب أو بين الجاليات المغربية بالخارج من خلال البعثات الرمضانية وغيرها. ثم ترسخت الفكرة والاهتمام اكثر فأطلقت الوزارة منذ عام 2008 تجربة رائدة تمثلت في ابتعاث نخبة من الأئمة والخطباء والوعاظ، يزيد عددهم عن ثلاثين إمامًا، حاملين شهادات عليا ومؤهلات علمية وأكاديمية، بهدف الإسهام الفعلي في تأطير الجاليات المغربية والمسلمة في أوروبا، لا سيما في فرنسا.
ولم يكن الهدف مجرد سد فراغ وظيفي أو ملء منابر بالوعظ والإرشاد، بل كان مشروعاً مؤسسياً استراتيجياً يروم المعاصرة والملاءمة:
– معاصرة: لأن هؤلاء الأئمة يعيشون وسط الجالية، المسلمة يلمسون قضاياها اليومية، ويواجهون تحدياتها الواقعية.
– وملاءمة: لأن خطابهم ينطلق من بيئة الناس نفسها، متفهم لظروفهم وقوانين بلدان إقامتهم، بعيد عن الانفصال أو الاستيراد الحرفي لفتاوى لا تراعي السياق.
وهكذا، تميّزت هذه التجربة بكونها نقلت الشأن الديني من موقع التوجيه عن بُعد إلى المشاركة من الداخل، بما يحقق معنى الحكمة النبوية الجامعة: “ بشّروا ولا تنفّروا، ويسّروا ولا تعسّروا ” اخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734)
ولا شك أن هذه التجربة – كغيرها من المشاريع الإنسانية – لم تخلُ من صعوبات وإكراهات، سواء على مستوى التدبير الإداري أو التكيّف مع الواقع الجديد. لكن رغم ذلك، فقد أثمرت كثيراً من الخيرات، وأثبتت قدرتها على تطوير نموذج أصيل في التأطير الديني من جانب الأئمة الثلاثين، يجمع بين الأصالة والوسطية والانفتاح.
ومن ثمارها:
– تكوين جسر متين بين الجالية ووطنها الأم، يحافظ على الهوية الدينية والوطنية في آن واحد.
– تقديم خطاب ديني وسطي، يوازن بين الالتزام بالشريعة واحترام قوانين البلد المضيف.
– إتاحة الفرصة للأئمة للاطلاع المباشر على التحديات الفكرية والاجتماعية التي تواجه المسلمين في أوروبا، مما يعمّق فهمهم ويصقل تجاربهم.
ومع حلول عام 2024م، ومع التغييرات التي طرأت على تنظيم الشأن الديني بفرنسا، فإن هذه التجربة الماضية تفتح الباب أمام تجارب ان شاء الله أخرى مستقبلية أكثر نضجاً وفاعلية، مع أمل في تطوير الأداء وتحسين الجوانب القابلة للتطوير بما يتلاءم مع تطورات الواقع.
لقد جسدت هذه التجربة المغربية الرائدة الحكمة البالغة في قول العرب: “ أهل مكة أدرى بشعابها”. وأثبتت أن العالِم أو الإمام الذي يعيش وسط الناس، ويفقه تفاصيل حياتهم، هو الأقدر على تنزيل النصوص الشرعية تنزيلًا صحيحًا مع مراعاته مقاصد الشريعة في جلب المصالح ودرء المفاسد.
وإذا كانت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قد أصابت في استلهام قاعدة: “أهل مكة أدرى بشعابها” لتجعلها منهجاً عملياً في التأطير الديني داخل الوطن وخارجه، فإن الأمل معقود على أن تواصل مثل هذه التجربة مسيرتها في ترسيخ النموذج المغربي في رعاية الشأن الديني، وتجعل منه قدوة يُحتذى به في العالم الإسلامي، خدمةً للإنسانية جمعاء وصوناً للأمن الروحي والاستقرار الاجتماعي.
بارك الله الجهود وسدد الخطى وتقبل العمل.