محمد عسيلة*
الهجرة جزء أساسي من التاريخ المغربي، حيث شكلت أجيال المهاجرين المغاربة امتدادًا ثقافيًا واجتماعيًا للوطن الأم في مختلف بقاع العالم. هذه الذاكرة الجماعية، التي تتجسد في العادات والتقاليد واللغة والارتباط العاطفي بالمغرب، هي من طبيعة الحال روايات فردية وفي نفس الآن إرث حضاري يعكس مساهمة مغاربة العالم في الهوية الوطنية.
ففي ظل التغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة، والعولمة والرقمنة التي عبرها يتم تحقيق الاختراق والتذويب الهوياتي الأصلي، أصبح الحفاظ على هذه الذاكرة مسؤولية جماعية تتطلب إدماجها في السياسات الثقافية والتنموية، وهو ما يطرح تساؤلًا حول موقعها ضمن التراث الوطني والرأسمال اللامادي للمغرب.
من خلال استقرائنا لمشروع القانون رقم 33.22 والمتعلق بحماية التراث وتنمية التراث الثقافي، يتضح أن المقاربة التشريعية تركز بشكل أساسي على المعالم الأثرية، الفنون التقليدية، والموروث الثقافي المادي واللامادي داخل حدود الوطن. لكن، في ظل الوعي المتزايد بأهمية مغاربة العالم في الخارج وهم في أزيد من مائة دولة عبر القارات الخمس ودور هذه الجالية في تعزيز الهوية الوطنية، يبقى السؤال مطروحًا حول مدى إدراج ذاكرة الهجرة ضمن هذا الإطار القانوني.
فرغم الإشارات العامة إلى التراث اللامادي كعنصر أساسي في الهوية الثقافية، فإن تفاصيل المشروع لم تتناول بشكل صريح تجارب المهاجرين المغاربة كجزء من هذا التراث، على الرغم من أن هذه التجارب تمثل سجلًا حيًا للهجرة المغربية وتأثيراتها المتعددة.
إن هذه الذاكرة الجماعية تشمل قصص الهجرة الأولى (مكتوبة، مصورة او شفاهية) ومعاناة الاندماج بكل اشكالها وكذا نجاحاتها وأزماتها، والتحديات التي واجهتها الأجيال المتعاقبة، بدءًا من العمال والتجار الأوائل الذين ساهموا في بناء اقتصادات أوروبا إلى الشباب الذين يواجهون اليوم تحديات الهوية والانتماء. كما أن الفضاءات التي أنشأها المغاربة في المهجر، مثل المساجد، الجمعيات الثقافية، والمهرجانات المغربية، تشكل امتدادًا لهذا التراث، مما يعكس الحاجة إلى الاعتراف الرسمي بها كمكونات أساسية للرأسمال اللامادي المغربي.
الرأسمال اللامادي، كما حدده الخطاب الملكي، يشمل كل ما يثري الهوية المغربية ويعزز مكانتها الحضارية، وهو مفهوم واسع يمتد ليشمل القيم والعادات والذاكرة المشتركة التي يساهم بها مغاربة العالم في الحفاظ على روح الانتماء. لذلك، فإن إغفال ذاكرة الهجرة في النصوص القانونية المتعلقة بالتراث الثقافي يشكل نقصًا في الرؤية الملكية الشاملة التي تسعى إلى تثبيت هذا الرأسمال وتعزيزه. إدراج تجارب مغاربة العالم في هذا الإطار لا يعني فقط حفظ قصص الهجرة، بل يهدف أيضًا إلى خلق وعي جديد لدى الأجيال الصاعدة داخل وخارج أرض الوطن الحبيب بأهمية الحفاظ على هذه الهوية وتعزيز الروابط بين الداخل والخارج.
لتجاوز هذا النقص، يجب التفكير في آليات عملية لحفظ ذاكرة مغاربة العالم، مثل إنشاء أرشيف وطني للهجرة المغربية يوثق شهادات المهاجرين، أو إدراج تاريخ الهجرة في المناهج الدراسية كجزء من السرد الوطني. كما يمكن دعم الإنتاج الثقافي والفني الذي يتناول قضايا الهجرة، سواء من خلال الأدب أو السينما أو المعارض الفنية، لتعزيز هذا الوعي. إضافة إلى ذلك، يمكن تطوير مبادرات رقمية وأكاديمية تهدف إلى دراسة وتحليل تجارب الجالية المغربية وإدماجها في السياسات الثقافية والتنموية.
إذا كان التراث الثقافي عنصرًا أساسيًا في حفظ الهوية الوطنية، فإن ذاكرة مغاربة العالم جزء لا يتجزأ من هذا التراث، خاصة في ظل تزايد أعداد المغاربة المقيمين في الخارج وتعاظم دورهم في نقل الثقافة المغربية إلى الأجيال الجديدة. مشروع القانون المتعلق بحماية وتنمية التراث الثقافي يمثل خطوة مهمة في تأطير الجهود الرامية إلى الحفاظ على الموروث الوطني، لكنه يحتاج إلى مراجعة أوسع تشمل ذاكرة الهجرة ضمن الرؤية الشاملة للرأسمال اللامادي للمغرب. بهذا الشكل، يمكن ضمان استمرار هذا التراث كمصدر للهوية والتواصل بين الأجيال، بدل أن يصبح مجرد سردية مهددة بالاندثار مع مرور الزمن.
في ظل الاعتراف المتزايد بأهمية التراث الثقافي كرافد أساسي للهوية الوطنية، يظل السؤال مفتوحًا حول موقع ذاكرة مغاربة العالم ضمن الرؤية الرسمية لحماية وتنمية هذا الإرث. فهل تعي الجهات الوصية، من وزارات ومؤسسات معنية، القيمة الحقيقية لهذا التراث كجزء لا يتجزأ من الرأسمال اللامادي للمغرب؟ وإلى أي مدى يتم إدماجه في السياسات الثقافية والتشريعية لضمان حفظه وتوثيقه ونقله للأجيال القادمة؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات تستوجب مقاربة جديدة تضع ذاكرة الهجرة في قلب استراتيجية الحفاظ على الهوية المغربية، وتضمن استمراريتها كجسر حي يربط بين الوطن وأبنائه في مختلف أنحاء العالم.
ـــــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23203