دفاعا عن العلامة محمد سعيد رمضان البوطي
عبد الرحمن فرحات
جدالٌ عقيم يظهرُ على وسائل التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر بخصوص الشهيد الدكتور البوطي، وكنا نظن أن الجدل العقيم حول مواقفه السياسية قد طواه الزمن وقد رحل عن عالمنا قبل أكثر من اثني عشرة سنة وقال المحب والمبغض، والمادحُ والقادح ما أراد، ولكن يبدو أن خطيبا من خطباء الأمير الجولاني أعاد إثارة الموضوع في خطاب مسجدي وفي سياق الهجوم على العلويين، وليتجدد الجدلُ البيزنطي والشتم والتمسخر من أناسٍ لو علموا أن رجلا يشتم البوطي في أحلامه لشاركوا المرء في حلمه.
الأمرُ ببساطة شديدة يمكنُ اختصاره في نقاط سريعة وقد كتبتُ وكتب غيري وعلى مدى سنوات عن الدكتور البوطي، وعن تراثه المعرفي والفقهي والفكري وعند الدكتور البوطي ما يستحق القراءة والكتابة وافقته أو خالفته، أعجبك كلامه أو لم يعجبك.
هناك طائفتان لهم عداءٌ وموقفٌ عنيفٌ لا نظير له من الدكتور البوطي منذ خمسين سنة من قبل وصول حافظ الأسد للحكم بل رُبما قبل وصول حزب البعث عام 1963 وهما:
-السلفية الوهابية والسبب هو كتاب “اللامذهبية“ الذي أصدره الدكتور البوطي عام 1960 وكان قد عاد حديثا من الأزهر الشريف، وخلاصة الأمر أن ناصر الدين الألباني رمز السلفية في دمشق وبإيعاز وترتيب منه لبعض أفراد السلفية المجاهيل في دمشق قد أصدروا كتابا يُهاجم التمذهب الفقهي ضربة لازب، ويدعو إلى تبني الطريقة السلفية الطفولية في فهم النصوص الدينية، وكان الألباني حينها وهو الأعجمي الذي لا يكادُ يُبين خطيبا للجمعة في مسجد جامعة دمشق، والذي استدعاه لهذه المهمة هو زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي واحد رموز الإخوان المسلمين (الفرع السلفي) في دمشق، وأصدر الألباني حينها كتبا معروفة من عينة :تنبيه الساجد، والأجوبة النافعة عن أسئلة مسجد الجامعة وغيرها من الكتب التي تهاجم لأجل الهجوم، وتطعن في الموروث الفقهي المعمول به، والتعرض لمسائل القبور في المساجد وتحريم الصلاة في هذه المساجد وتحريم أذان الجمعة الأول وغير ذلك من المسائل.
المهم؛ حصل نقاشٌ أو مناظرة بين الدكتور البوطي بحضور أبيه مُلا رمضان وبين هذا الألباني كان البوطي حينها في طور إعداد رسالة الدكتوراة في أصول الفقه بالأزهر وقد تتلمذ على كبار أساتذة الشريعة في الأزهر أمثال : محمد المدني ومحمد علي السايس ومصطفى مجاهد عبد الرحمن ومحمود شلتوت ومصطفى عبد الخالق وعبد الغني عبد الخالق وطه الديناري وسليمان مفتاح وهذه الطبقة المتميزة من أساتذة الشريعة الأزهريين علاوة على تردده الدائم على الأستاذ الكبير الشيخ محمد أبو زهرة؛مع تميزه الأدبي العربي الكردي وترجمته لرواية كردية للعربية بأسلوب بديع وغير ذلك من تكوينه المعرفي المتميز بالنسبة لعالم ديني؛ على الجانب الآخر يقفُ الألباني المجرد من النحو والمنطق والبلاغة وقبل ذلك من أصول الفقه والفقه الذي لم يكمل فيه دراسة متن فقهي للمبتدئين، وكانت النتيجة متوقعة، وبعد أن شارك في النقاش بلديه الشيخ وهبي غاوجي الألباني ثم الدمشقي الفقيه الحنفي الأزهري، أعلن المشايخ الحضور أن ناصر الألباني لا ينبغي له التصدر لأنه لا يصلُح ولجهله بأبجديات العلوم الدينية، وأذاعوا ذلك في أوساط الناس ولا تنس أن الدكتور البوطي كان أنجب تلاميذ الشيخ حسن حبنكة الميداني مؤسس معهد التوجيه الديني وأكبر مشايخ دمشق في وقته، وما هي إلا سنوات وقد خرج الألباني من دمشق إلى الأردن بعد وساطة البعض له عند الملك الحسين بن طلال ليمضي ما تبقى من عمره حتى وفاته 1999.
لا ينسى الوهابيون هذا الموقف للبوطي، وفوق ذلك فقد كان الدكتور البوطي مقارعا للفكر السلفي طيلة عمره ومؤلفاته وكتاباته ومحاضراته شاهدة على هذا وباختصار شديد فالبوطي “شافعي أشعري أزهري“ وهذه هي قمة الضلال والانحراف والزندقة في نظر السلفية التقليدية.
-أما الخصمُ العنيف الثاني فهم الإخوان المسلمون رغم أن الدكتور البوطي لم يكن متبرعا بالهجوم عليهم بل كان على علاقة وطيدة بالأستاذ مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين فترة وجوده بكلية الشريعة بدمشق قبل وفاته فترة الستينيات، وكانت تربطة صلة خاصة بالأستاذ علي الطنطاوي وهو في الدائرة الواسعة للإخوان وابنته بنان كانت زوجة لعصام العطار مراقب الإخوان بسوريا لاحقا وشقيق السيدة نجاح العطار وزيرة الثقافة السورية لعقود؛ ولم يكن الدكتور البوطي بعد حصوله على الدكتوراة في الأزهر سنة 1965 منشغلا بغير الكتابة أو التدريس بالجامعة طيلة فترتي الستينات والسبعينيات، ولا تعرفُ له حتى هذا الوقت توجها سياسيا باستثناء ترحيبيه في مقالٍ له سنة 1958 بقيام الوحدة بين مصر وسوريا وثناءه العادي على جمال عبد الناصر الخصم التقليدي للإخوان المسلمين حتى كانت حادثة مدرسة المدفعية الدموية وقتل الضباط الخريجين من الطائفة العلوية على أساس طائفي وانتظاما في سلسة من الأجرام ابتدأها الإخوان منذ الستينات وتصفية رئيس جامعة دمشق عام 1977 ووصولا إلى الشهيد الشيخ محمد الشامي مدير أوقاف حلب، وأحداث القتل الطائفي للعلويين من فلول تنظيم مروان حديد الذي كان يرى وجوب قتل المكونات السورية غير السنية بشرط التأكد من استطاعة الهرب بعد الجريمة، وبدعم من الأنظمة العربية المناوئة للنظام السوري وعلى رأسها البعث العراقي فكان الداخل السوري ولبنان بطبيعة الحال ساحة لتبادل الرسائل بين النظامين.. طُلب رأي الدكتور البوطي باعتباره أستاذا وعميدا لكلية الشريعة في حادثة المدفعية وبعد الرجوع إلى والده ملا رمضان واستشارته أعلن لوسائل الإعلام أن هذه جريمة يأباها الشرع والدين ولا تجوز بحال من الأحوال.. وفي خضم الصراع الدموي قرر وزير الأوقاف دعوة الدكتور البوطي لإلقاء خطبة في احتفال المولد النبوي بحضور حافظ الأسد.. ألقى الدكتور البوطي كلمته ويبدو أنها لم تكن كلمة تقليدية على طرائق المشايخ المعتادة، ويبدو أن حموة الشباب واعتداد الرجل بنفسه قد جعلته يقترب من بعض المحظورات في نظر وزير الأوقاف الخائف من غضبة رئيسه، ولكن المفاجأة أن حافظ الأسد كان قد أعجب بالكلمة وليتزامن ذلك مع تحقيق كتب الدكتور البوطي نسبة مبيعات عالية في معرض الكتاب بدمشق ومنها كتابه عن نقض المادية الجدلية، وكعادة هؤلاء الرؤساء العرب الذين تستهويهم هذه التفاصيل فقد وصلت هذه الكتابات لحافظ الأسد ليطلب التعرف على هذا الأستاذ الجامعي المتشرع الذي يكتب في هذه القضايا ويغير صورة الشيخ الدرويش في ذهن كثير من الناس.
وكانت أحداث حماة الدامية فصلا مؤسفا لصراع الحكومة السورية مع الإخوان المسلمين، وبعدها بدأت أجهزة الدعاية العمل على التأكيد بأن حرب الدولة السورية مع الإخوان المسلمين وليس مع الدين الإسلامي فكان طبيعيا أن يبدأ الظهور الإعلامي لبعض المشايخ ولم يكن أحدٌ من أساتذة الشريعة الجامعيين في سوريا إلا قلائل وصلوا في بعض المراحل إلى ستة أشخاص فقط على رأسهم الدكتور البوطي فابتدأت رحلة الظهور الإعلامي فاعتبر الإخوان ذلك انحيازا لتصرفات حافظ الأسد وإهدارا لدماء مخالفيه من البوطي، ولتقوم قيامة الإخوان المسلمين بعد سنوات بسبب كتابه الذي أصدرهُ عن (الجهاد) وحصره في الدفاع عن الأوطان ضد المحتل الخارجي، وفي خضم أحداث “العشرية السوداء“ في الجزائر التي كان الدكتور البوطي يتردد عليها في الثمانينات هو والشيخ محمد الغزالي بدعوة من الرئيس الشاذلي بن جديد ضمن ملتقيات الفكر الإسلامي وجامعة الأمير عبد القار بقُسنطينة، وكيلت للرجل التهم لأنه قد قرر في درسه ما يُجهضُ مشاريع الحركات الإسلامية في صراعاتها العبثية مع الأنظمة العربية، ولم يكن مشربه الرافض للعنف المُسلح وتحذيره من الحرب الأهلية السورية إلا امتدادا لنهجه وتفكيره الذي وصل إليه باقتناع خالص وعلى مدى عقود ووفق فهمه وما أداهُ إليه بحثه.
لم يكن متكسبا بمواقفه وآراءه، ولم يستطع أعدى أعدائه التشكيك في نزاهته أو ذمته المالية وقد رحل عن هذه الدنيا وهو لا يملك إلا ليرات بسيطة، حتى يذكرُ حفيده أن زوجة جده قد استدانت منه لمدة شهرين بعد استشهاده قائلة له : إن جدك لم يترك لنا شيئا ولم يكن معه إلا النقود القليلة التي في جيبه يوم استشهاده في مسجده وسط محبيه وطلابه؛ ولم يكن موقف الإخوان المسلمين إلا امتدادا لنهجهم الساقط مع كل من لم يكن من مطاياهم، والكل يعرفُ أنه هو الذي سعى في إعادة بعض المبعدين في فترة التسعينيات وهو الذي سعى لإعادة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة وقد عاد بالفعل إلى سوريا وزارها، كما عاد غيره.
ولم يكن وسطٌ دينيٌ وفيا للدكتور البوطي معترفا بأثره وجهده مثل الوسط الأزهري والوسط العلمائي الكردي ولذا تجدُ الأوساط الإخوانية مجاهرة بالعداء لهذا الوسط حتى وصل الحال بأمثال القره داغي وهو كردي إخواني قطري مُستترك متنكبٌ عن سننٍ علماء الكورد أن يصف شيخ الأزهر وعلمائه بأنهم خوارج العصر!
وكان الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب من الذين يعرفون للشهيد مكانته وأثره العلمي والمعرفي، فكان على رأس من يُدعون إلى مؤتمرات الأزهر وكان آخرها سنة 2012، وفي نعي شيخ الأزهر له أطلق عليه لقب “علامة الشام “ على ترفع في خطاب شيخ الأزهر على استعمال مثل هذه المصطلحات في النعوات.
وختاما : إن العالم الديني المتخرج في مؤسسة دينية تقليدية هو بأصل تكوينه ليس معارضا ثوريا، وليس مطلوبا منه أن يكون زعيم حزب سياسي أو منظمة مسلحة، ولا أن يكون مطية للإخوان المسلمين أو مراهقا على طريقة حزب التحرير الإسلامي ولم يقدم كلا المشروعين إلا الخراب الفكري والعقلي والواقعي في كل البلدان العربية دون استثناء، والواقع لا يرتفع وما يقال عن الدكتور البوطي هو ما يقال عن غيره وفي بلدانٍ مختلفة، والقائل هو القائل، والمتشبعُ بالجرثومة الإخوانية هو المتشبع.
بقي أمرٌ أخير تحقدُ بسببهِ هذه الأصناف ومتبوعيها من سذج الثانويات الشرعية على الدكتور البوطي وهو العالم الديني الكبير وهو موقفه من الأقليات والمكونات الدينية في سوريا فعلاوة على علاقته الحسنة بالمسيحيين ومع عدم انغماسه في ملف التقريب السني/ الشيعي- فالمصريون وحدهم هم السباقون ولا يزالون في هذا الباب – فقد كان الدكتور البوطي رافضا لفتاوى التكفير تجاه الطوائف فتجده في فتاويه المطبوعة سنة 2000 يفتي بوضوح بجواز زواج الإسماعلية من السني، وزواج الإسماعيلي من السنية؛ ثم هو يتجاوز هذا بالقول إلى سائله : إن مثل هذه الأسئلة لا يجبُ سؤالها فما دام الرجل أو المرأة ينطقان بالشهادتين فهما من المسلمين قطعا ولا عبرة باختلاف المذاهب.
أما كلامه عن العلويين فهو مسجلٌ بالصوت والصورة ومذاعٌ منشور وهو يرفضُ رافضا قطعا دعوات التكفير الجماعي ورمي تهم الزندقة والتضليل والإكفار، وهذه هي ثالثة الأثافي عند شيوخ الثورة السورية الأشاوس لأنها تهدمُ الصنم الأكبر أعني “المظلومية السنية“ التي على أساسها بدء الجولاني رحلة كفاحة بتفجيرمدارس الأطفال وتدمير الأضرحة الدينية كضريح النووي مثالا، وانتهاء بمذابح الساحل والقتل اليومي للمكون العلوي، و الغزوة البربرية على جبل العرب “السويداء“.
إن الأزهرُ الشريف يعتبر جميع هذه الطوائف طوائف إسلامية وذلك واضحٌ تماما من تصريحات شيخ الأزهر المنشورة قبل أسابيع في استقباله لإمام الطائفة الإسماعيلية، ولم يكن الدكتور البوطي إلا متبنيا لهذا المشرب الدقيق الذي ينظرُ للبنية الاجتماعية وواقع الناس وحيواتِهم وليس النهج الذي يحكُمُ على مجتمعاتٍ إنسانية بنقولات بالية من مدونات القرن الرابع الهجري، أما الذين مستواهم متونُ المبتدئين ولم يتبع هذه الثورة – وعلى مسؤوليتي – عالمٌ أو فقيهٌ واحدٌ من الدرجة الأولى، وجل المتصدرين في هذه الثورة وإذا جاوزنا التكفيريين الأقحاح فليس بينهم من يمكنُ تعدادهُ في الفقهاء الحقيقيين أو العلماء المُلتزمين، وأحسنهم حالا مدرسون في مدرسي المعاهد الأزهرية في مصر من يفوقهم معرفة وإدراكا وفهما للكتب المدرسية.
المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك: https://www.facebook.com/share/19xxpvQT7Q/
التعليقات