خطورة التفسير الثوري والإيديولوجي للقرآن الكريم
الشيخ الصادق العثماني – أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
يُعدّ القرآن الكريم أصلَ الأصول التشريعية في الإسلام، وركناً أساسياً في توجيه الإنسان نحو مقاصد الحق والخير والعدل.
وقد جرى تلقي نصوصه عبر التاريخ الإسلامي وفق منهج تفسيريّ منضبط يقوم على فقه اللغة، وأسباب النزول، والقرائن السياقية، ومقاصد الشريعة. غير أنّ فِرَقاً وجماعاتٍ معاصرة عمدت إلى تفريغ الوحي من ضوابطه العلمية، وتعاملت معه بوصفه مادّةً «ثورية» قابلة للتوظيف في صراعاتٍ سياسية وأيديولوجية، فأنتجت ما يمكن تسميته بـ«التفسير الثوري» أو «التأويل الصدامي للنص»، وهو نمط قراءة يقطع النص عن بيئته الشرعية، ويحمّله دلالاتٍ لم يقل بها علماء الأمة .
إنّ الخطورة العظمى لهذا النوع من التفسير أنّه يُسخّر آيات القرآن لتبرير العنف، وتوليد خطاب الكراهية، وإضفاء الشرعية على مشاريع الصدام، بينما يقوم الفقه على نقيض ذلك؛ أي على منهج الترجيح بين المصالح والمفاسد، والنظر في المقاصد، وإدراك مراد الشارع لا مرادات الجماعات..
وهذا الانحراف المنهجي أدى إلى تغييب قواعد التفسير والاستدلال، واستبدالها بتأويلات انتقائية تُقصي كل آيات السلم والتعارف والبرّ والإحسان.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك إساءة فهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ} (المائدة: 51)، حيث تُتلى هذه الآية في الخطابات الثورية لجماعات “الإسلام السياسي” بوصفها تحريماً مُطلقاً للتعاون، أو المعاملة الحسنة، أو إقامة العلاقات الإنسانية الطبيعية مع أهل الكتاب، بينما أجمع المفسّرون الأوائل على أنّ الآية نزلت في سياق الحرب والعداء الظاهر، وأن المقصود بها موالاةُ الأعداء ومعاونتهم على المسلمين، لا ترك البرّ والعدل والإحسان مع المسالمين من أهل الكتاب.
وقد نقل الإمام القرطبي وغيره أنّ الآية نزلت في طائفة من المنافقين خشيت الهزيمة يوم أحد، فأرادت الاحتماء بقوة اليهود. وهذا الفهم السياقي يمنع التعميم ويضبط الدلالة، ويُظهر أن النهي هنا متعلقٌ بموالاة الخيانة لا المعاملة الإنسانية.
ويؤكّد القرآن نفسه هذا التفريق الدقيق في سورة الممتحنة حين يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ … أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}، فجعل البرّ والقسط قاعدةً شرعية مع من لم يمارس العدوان، وهذا أصلٌ فقهـيٌّ عامٌّ ينسف التفسير الثوري الذي يَعُمُّ الأحكام دون مراعاةٍ للتمييز بين المحارب وغير المحارب.
وممّا يدلّ على انفتاح الشريعة واتساعها في المعاملة، أن الإسلام أباح للمسلم نكاح المرأة الكتابية في سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، وهو حكمٌ شرعيّ أثبته السلف، ومورس في عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولم يخالف فيه أحد من فقهاء الأمصار.
وهذا الإذن الشرعي يُعدّ أبلغ دليل على أنّ علاقة المسلم بغير المسلم ليست علاقة قطيعة أو توتر، بل علاقة سكنٍ ورحمة ومودة ومعاشرة، وهي أعلى درجات التعامل الإنساني.
وليس التفسير الثوري خطيراً فقط لأنه مخالف لقواعد العلم، بل لأنه يعطّل مقاصد الشريعة التي جاءت لحفظ النفوس، وإقامة العدل، وصيانة الأمن، وتحقيق العمران. فقد نبّه الإمام الشاطبي في «الموافقات» إلى أنّ إخراج النص من مقصده يُفضي إلى فساد عريض، وإلى تنزيل الأحكام في غير منازلها، وهو تماماً ما تفعله الجماعات المؤدلجة حين تقرأ النص بمنظار الصراع.
وإن مما يزيد من خطورة هذا المنهج أن أصحابه يستندون إلى تصوراتٍ مادية للتاريخ شُبّهت ببعض أطروحات ماركس حول الصراع، فيُسقطونها على الوحي وبنية الأحكام، فيجعلون الدين مرجعاً للثورة الدموية لا للهداية والإصلاح.
وهذه القراءة لا تمتّ إلى العلوم الشرعية بصلة، لأنها تستخدم النص لا لفهمه، بل لتسويغ مشاريع مسبقة تُلبِس العنف لباسًا دينيًا.
إن صيانة النص القرآني من هذا التلاعب واجبٌ شرعي وعلمي، ولا يتحقق إلا بإعادة الاعتبار لمنهج السلف والمفسرين، والاحتكام إلى أصول الفقه، واستحضار المقاصد، وربط الأحكام بعللها وسياقاتها.
وعلى العلماء أن يُبيّنوا للناس أن القرآن كتاب هداية للعالمين، وأن الأصل في التعامل مع البشر هو السلم والعدل والبرّ، وأن الحرب ظرف استثنائي تُقاس أحكامه على شروطه لا على الهوى والغلوّ.
إنّ الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى خطابٍ فقهـيٍّ رصين يفكّك هذه القراءات المؤدلجة، ويردّ النصوص إلى سياقاتها، ويجعل الفتوى وسيلةً لاستعادة المعنى الأخلاقي والحضاري للإسلام، لا ذريعةً للاحتراب أو التطرّف. ذلك أن التفسير الثوري ليس مجرّد خطأ علمي، بل هو خطرٌ مجتمعيّ يفرز العنف، ويشيع الفتن، ويُحدث القطيعة بين الإسلام وغاياته العليا في السلم والبناء والإصلاح.
التعليقات