20 أغسطس 2025 / 15:59

حين يتحول التحليل إلى وصم: تفنيد مغالطات أحمد عصيد حول الجالية المغربية

د. عبد الحي السملالي
في تصريحاته الأخيرة المنشورة على موقع كود المغربي، تناول أحمد عصيد ملف الجالية المغربية بالخارج من زاوية التدين، واصفًا إياه بأنه “إيديولوجيا مقاومة” و”أحد مظاهر الاضطراب النفسي”. هذا الخطاب، رغم ما يدّعيه من دفاع عن “التدين المغربي الوسطي”، ينزلق إلى لغة إقصائية تُحمّل الجالية مسؤولية التطرف، وتُصورها ككتلة واحدة تعاني أزمة هوية خانقة.
لكن قبل الخوض في مضمون التصريحات، لا بد من التوقف عند موقع عصيد نفسه في المشهد الثقافي المغربي. فرغم تقديمه إعلاميًا كمفكر، فإن إنتاجه لا يرقى إلى مستوى التنظير أو التأصيل المعرفي. ما يقدمه هو آراء سياسية وإيديولوجية، تُعبّر عن موقفه من الدين والهوية والتاريخ، لكنها لا تُؤسس لمفاهيم أو أدوات تحليلية جديدة. إنه كاتب رأي، لا مفكر، يُعلّق على الأحداث من زاوية شخصية، غالبًا ما تكون مشحونة ضد المكون العربي الإسلامي في الهوية المغربية.
 
التعميم المضلل: الجالية ليست كتلة واحدة
يتحدث عصيد عن “أغلبية المغاربة بالخارج” وكأنهم جميعًا يعيشون أزمة هوية خانقة، ويعتنقون تدينًا راديكاليًا. هذا التعميم لا يستند إلى أي دراسة ميدانية أو تحليل سوسيولوجي، بل يُعيد إنتاج صور نمطية متداولة في الإعلام، دون تمحيص أو تدقيق. الجالية المغربية متنوعة: فيها المتدين واللاديني، الوسطي والمتشدد، وفيها من يعيش اندماجًا ناجحًا دون أن يفقد هويته. نعم، توجد حالات تشدد، لكن لا يجوز تحويلها إلى قاعدة عامة.
والأهم أن عصيد تجاهل حقيقة أن النموذج المغربي للتدين، القائم على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، هو المعتمد في أكثر من 500 مسجد في فرنسا، حيث يُقرأ الحزب الراتب على الطريقة المغربية، وتُمارس الشعائر وفق التقليد المغربي. بل إن هذا النموذج أصبح مرجعًا ليس فقط للجالية المغربية، بل حتى لبعض الجاليات الإفريقية، خاصة السنغالية، التي تتبناه في مساجدها. المذهب المالكي اليوم منتشر في أوروبا، ويُنظر إليه كصيغة معتدلة ومتوازنة، مما يُفنّد مزاعم عصيد حول هيمنة التدين الراديكالي.
 
التناقض في الخطاب: دعوة للتسامح بلغة التشهير
كيف يمكن الدعوة إلى الاعتدال بلغة التشهير؟ عصيد يطالب أبناء الجالية بالعودة إلى “التدين المغربي الطبيعي”، لكنه يصف تدينهم الحالي بأنه اضطراب نفسي وسلوك عدواني. هذا التناقض يُضعف الحجة ويُحول الخطاب من دعوة إصلاحية إلى إدانة جماعية.
 
تغييب السياق الغربي
يتجاهل عصيد أن كثيرًا من أبناء الجالية يعيشون في بيئات علمانية تُحمّلهم مسؤولية تمثيل الإسلام، مما يدفع بعضهم إلى التشدد كرد فعل دفاعي. التدين في المهجر ليس دائمًا تطرفًا، بل أحيانًا تعبير عن الهوية في سياق يشعر فيه المسلمون بالضغط والتهميش. كما أن الجالية المغربية منخرطة في حوار الأديان، وتُشارك في مبادرات المواطنة والتعايش، وهو ما يُثبت أن علاقتها بالمجتمع الفرنسي ليست قائمة على الانغلاق أو المواجهة.
 
غياب التمييز بين الفرد والمؤسسة
الخلط بين التدين الفردي والتأثيرات الخارجية كتنظيمات الإخوان والسلفية يُنتج تحليلًا سطحيًا يُغيب السياق السياسي والديني في أوروبا، ويُحول الظاهرة إلى مؤامرة. كما يغفل عصيد أن الوهابية، التي كانت تُموّل من بعض الجهات الخليجية، قد تراجعت بشكل كبير بعد وقف الدعم السعودي منذ سنوات، ولم تعد تيارًا مؤثرًا كما كان في التسعينيات.
والأهم أن الهيئات الإسلامية الكبرى في فرنسا، مثل اتحاد مساجد فرنسا (UMF)، والفدرالية العامة لمسلمي فرنسا (FMNF)، وتجمع مسلمي فرنسا (RMF)، التي تضم المغاربة، تُقدّم النموذج المغربي بوصفه نموذجًا وسطيًا متسامحًا، وتُعارض الإسلام السياسي والتطرف. نتائج انتخابات المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية منذ تأسيسه سنة 2003 تُظهر بوضوح أن هذه الهيئات تمثل الأغلبية، وتُدافع عن الاعتدال والانفتاح.
 
الجالية المغربية في فرنسا: نموذج للاندماج والانفتاح
ما يغفله خطاب عصيد هو أن الجالية المغربية تُعد من أكثر الجاليات تنظيمًا وانخراطًا في الحياة المدنية والدينية. منذ عهد شوفينمان، وقّعت الهيئات المغربية على ميثاق العلمانية، وأثبتت التزامها بقيم الجمهورية دون صدام أو انغلاق. وهي ممثلة رسميًا في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وتُشارك في تأطير الأئمة وتنظيم الشعائر، وتُقدّم رؤية متوازنة تُناهض التطرف وتُعزز الحوار بين الأديان.
كما أن الجالية المغربية تُحظى بعلاقات جيدة مع المجتمع الفرنسي بكل أطيافه، وتُستقبل رسميًا من جميع رؤساء الجمهورية منذ عهد فرانسوا ميتيران، ما يُعكس مكانتها واحترامها داخل المؤسسات الفرنسية.
 
خطاب الحركة الأمازيغية: من الدفاع إلى الإقصاء
عصيد يُروّج لخطاب يُزكّي حركة أمازيغية ذات طابع إقصائي، تُمارس ما يمكن وصفه بـ”التقية الخطابية”: تُعلن الدفاع عن الحقوق الثقافية، لكنها تُخفي خلف ذلك نزعة عدائية تجاه المكون العربي الإسلامي، وتُقدّم الأمازيغية كهوية نقية في مقابل “هوية دخيلة”. هذا الخطاب، وإن بدا في ظاهره حقوقيًا، يُغذّي انقسامات هوياتية ويُعيد إنتاج صراعات رمزية لا تخدم التعدد الثقافي الحقيقي.
أين التواضع المعرفي؟
يتحدث عصيد عن ملف الجالية وكأنه خبير في الشأن الديني، دون أن يُظهر معرفة بالمؤسسات الدينية في أوروبا أو بالتحولات الجيلية داخل الجالية. يكتفي بنقل صور نمطية دون بناء نظري أو ميداني، مما يُضعف مصداقية خطابه ويُحوّله إلى تكرار إنشائي.
خلاصة
تصريحات أحمد عصيد تكشف عن خلل في المنهج، وتناقض في الخطاب، وضعف في الإحاطة بالملف الذي يتناوله. الجالية المغربية بالخارج ليست كتلة واحدة، وتدينها ليس اضطرابًا، بل تعبير عن هوية متعددة الأبعاد. ومن يتحدث عن التسامح، عليه أن يبدأ به في لغته وتحليله، لا أن يُحوّل الاختلاف إلى تشهير، والتنوع إلى مرض.
أما من يُقدَّم كمفكر، فعليه أن يُنتج فكرًا، لا أن يُعيد تدوير مواقف إيديولوجية تُغذّي الانقسام وتُضعف النقاش العمومي. وبينما يختار البعض طريق التصادم، يُفضّل المغرب طريق التراكم الهادئ، حيث تُصاغ الحداثة من داخل المرجعية، لا ضدها.