نورالدين الحاتمي
لا شك أن مستقبل الحركة الإسلامية و العمل الدعوي، من القضايا المهمة التي تستحق أن تولى قدرا من الاهتمام من قبل الباحثين و المهمين، و هو مهم ليس فقط، بالنسبة لهؤلاء، وإنما بالنسبة لجمهور المسلمين عموما، وللمهتمين بمستقبل الدعوة ومستقبل الإسلام خصوصا، حيث يعتبر مستقبل أية دعوة أو أي دين مرتبطا بمدى همة المنتسبين إليه والعاملين على الدعاية له. فكيف يمكن تقويم واقع الحركة الإسلامية مقارنة بالأمس؟
إنه مما لا شك فيه أن الحركة الإسلامية اليوم تعيش على وقع انكسارات و تراجعات مثيرة، و تعرف إخفاقات و هزائم مدوية، لا سبيل إلى التنكر لها، لأن الواقع لا يرفع، كما يقولون. لقد فقدت الحركة الإسلامية كثيرا من هيبتها و زخمها و قوتها، و خسرت مصداقيتها بين جماهيرها، ولم يعد بمقدور قياداتها الزعم أنهم قادرون على السيطرة على الشارع، و سحب البساط من تحت أقدام خصومهم الإيديولوجيين. إن حاضرها اليوم، كارثي، بالمقارنة مع ما كانت عليه بالأمس، يوم كان المهتمون الغربيون يزعمون أن الإسلام السياسي هو”صوت الجنوب” ولا يتحدثون إلا عن سطوع نجمه، فما هي الأسباب التي تسعف في تفسير ما آلت إليه الحركة الإسلامية؟ أي لماذا انتهت إلى الإخفاق و الهزيمة؟
لقد كانت الحركة الإسلامية ـ كما يقول عبد الإله بلقزيزـ حركة “ظفراوية” تتغذى على إخفاقات غيرها، و تتقوى بضعفها، و كانت قوية و ضخمة عندما كانت تحافظ على عذريتها و طهارتها، و لم تكن قد تقلدت أية مسؤولية من مسؤوليات الشأن العام، ولم تخضع لأي اختبار، وكانت لا تزال حركة معارضة، تزايد على غيرها بما تزعم أنها البديل، وأنها القادرة على النهوض بالأمة، وأن خطابها ـ الذي يمتح من الماضي و يتكئ عليه في التأصيل لمشروعه ـ هو الخطاب الأوحد الذي لم يتم تجريبه، و أنه بمجرد أن يصلوا، هم، إلى السلطة، سوف يتغير كل شيء ، وستخرج الأمة من التخلف وتحقق إقلاعها الحضاري.
اليوم، و قد سقطت أوراق التوت عن عورات منظريها و قياداتها، وأصبحوا عراة امام العالم، تأكد للناس و للشعوب ـ التي كانت متعلقة بهم معلقة عليهم آمالها ـ أنها لا تختلف عن غيرها من ذوات “المشاريع التغييرية” و لا تحمل أي جديد، و أنها إنما كانت تمارس السياسة بالدين، الذي لا حظ لها منه إلا الخطب والمحاضرات، وأنها اخفقت في ممارسة السياسة كما أخفق غيرها، وكان إخفاقها أشد، والأمر هنا لا يحتاج إلى كثير بيان، فالنموذج المغربي ناطق لوحده، بفساد النخبة السياسية الإسلامية، وزيف صلاحها وصدقها، فلم تلعن الجماهير حزبا سياسيا كما لعنت هذا الحزب “الإسلامي” ولم تحقد على نخبة كما حقدت على نخبتهم، خاصة وأن “الزعيم” ـ عندهم ـ ما فتئ يستفز شعور الشعب، بالقول أنه ـ هو زمرته ـ جاءوا إلى الحكومة من أجل الرفع من مستواهم المادي، ومن أجل قضاء حاجاتهم الشخصية، و ديذكرهم بما كانوا عليه من الفقر وما أصبحوا عليه من الغنى، ولا يقف الأمر عند فشل النخب الإسلامية في المغرب فحسب، بل إن هذا الفشل وهذا الإخفاق امتد ليشمل كل الدول العربية التي وضعت جماهيرها ثقتها فيهم.
و إذا كانت هذه حال جماعات “الإسلام السياسي”، فإن حال جماعات “الإسلام الراديكالي” و “الجهادي” لا تختلف عنها من حيث المصير الذي انتهت إليه، فقد ظهر لكل ذي عينين أنها أدوات، تستعملها القوى الكبرى للقتل والتدمير، وتقضي بها مآربها، و ـ شاءت أم أبت ـ لا تملك لنفسها حولا و لا قوة، حتى و إن خُيل لها غير ذلك .
لقد ظهر من خلال عدد من التسريبات أنها ليست إلا بنادق للإيجار، وقتلة تحت الطلب، و أن قياداتها ـ عددا منهم على الأقل ـ تم تجنيدهم وتوظيفهم من قبل استخبارات عالمية، وأنها تنفذ لها أجندتها لا أقل و لا أكثر، سواء وعت ذلك أو لا، وأن قيادات تلك التنظيمات التي أوهمت الشعوب أن مشروعها مشروع “نبوي صادق” حتى اغتر بها عدد من الشباب وانخدع فتحول إلى وقود لنا لا تتوقف عن الحرق، يتأكد ذلك، في كونها تلعب أدوارا مزدوجة ـ شعرت أو لم تشعرـ حيث تُستعمل عناصرها للتدمير، ويستعملها من تروج للناس أنها تجاهد ضده، لتبرير بقائه على السلطة وإضفاء الشرعية على استبداده.
ويكفي النظر إلى تاريخ هذه التنظيمات، للتأكد من مدى صدق هذه الدعوى، وانظر إلى رأس حربة هذا اللون من الإسلام، لترى كيف مكنت ” لهبل العصر” كما يسمونه، للسيطرة على الوطن العربي واحتلال بلدين مسلمين، وكيف ساهم فرعها في بلاد الرافدين في إذكاء الصراع الطائفي المقيت بين المسلمين، وكيف تفيد منه الأنظمة في تكريس تسلطها ومواصلة قمعها لشوبها، بذريعة مكافحة الإرهاب، وكيف ارتد “الجهاد” المزعوم إلى داخل الوطن العربي، واستهدف العرب والمسلمين، حتى إذا قلنا الإسلام الراديكالي” ضر ولم ينفع وخرب ولم يبن لم نعدُ الصواب، فقد ولغ في الدم وأزهق الأرواح والأنفس وهدد الأمن والاستقرار في عدد من بلدان الوطن العربي المنهك والمثقل بالجراح.
أما بالنسبة للإسلام “السلفي” الموالي للسعودية، فأمره لا يخفى على أحد، و الأدوار التي يلعبها لصالح التخلف والانحطاط، ولصالح الأنظمة المستبدة، لا تحتاج إلى ان نُذكر بها، فهي تنظيمات أقل ما يقال عنها، انها أدوات يتم استعمالها لتقليم أظافر التنظيمات “الإسلامية” الطامحة إلى الوصول إلى السلطة و المناضلة ضد الدول. وهذه الحقيقة أيضا، تظهر واضحة في تأويل الدين، نفسه، لصالح الاستبداد وإصدار الفتاوى المنفرة من جماعات النضالية “الإسلامية” واعتبار هذه الأخيرة، أخطر على الدين من الأنظمة القائمة، من حيث ان هذه الأخيرة لا تزيد عن أن ترهن حاضر الأمة ومستقبلها للأجنبي، ولا تتدخل في ما يتعلق بعقائد الناس، في حين أن تلك الجماعات تشكل تهديدا مباشرا على الدين نفسه، لأنها طوائف بدعية، وبالتالي، تكون مواجهتها أولى من مواجهة تلك الأنظمة. وقد بدا ذلك في الرسالة التي وجهها أحد قياداتهم لمريديه وأتباعه في ليبيا، محرضا إياهم على القتال ضد الجماعات الإخوانية الموالية لتركيا الأمر الذي شوه الدين نفسه، وأسهم في إسقاط “قداسته” وإخراجه عن وظيفته الوجودية السامية، فتحول إلى “إيديولوجيا خطيرة” كما توقع المرحوم محمد أركون.
وإذا كانت صورة تلك التنظيمات وفق ما قلنا و وصفنا، فإن الحال بين تلك التنظيمات، لا يبعث على التفاؤل، حيث ان كل و احدة من تلك التنظيمات تتهم غيرها بالخيانة و ترميها بالعمالة، وتفسر وجودها بالتآمر عليها والتنسيق مع “العدو” للنيل منها واستئصال وجودها. و لذك لا تتوقف كل منها عن البراءة من الأخرى والتحريض عليها، وهكذا الحال بين كل من التنظيمات المحسوبة على “السلفية الجهادية” و”السلفية الإرجائية” وبين غيرها من المحسوبة على “الإسلام السياسي”، كل واحدة من تلك الجماعات تزعم انها وحدها تمثل الإسلام “الأصيل” وأن غيرها تخذله و تغدر به. والأمر ليس مختلفا بالنسبة للطرق والزوايا الصوفية والجماعات المتقاطعة معها، حيث على الرغم من الدعم الذي تتلقاه من قبل الدول، إلا أنه لا صوت لها اليوم و لا أثر، والكل يلاحظ تراجعا واضحا على مستوى أدائها وتأثيرها في الواقع.
بالإضافة إلى المصير الذي انتهت إليه تلك التنظيمات، هناك أيضا الحال التي أصبح عليها مشايخ الإسلام، والفضائح التي تم التركيز عليها في العقد الأخير، والمفارقات الكبيرة التي تعرفها فئة الدعاة والمشايخ والرموز والأعلام الدعوية، التي كانت تتناسل كالفطريات، لما تعلم أن الطريق الأكثر اختصارا للوصول إلى النجومية، هو التوسل بالخطاب الأصولي الديني، والتحول إلى احتراف الدعوة إلى الله للتكسب والاغتناء، فتم كشف حقيقتهم و تحالفاتهم، وعلاقاتهم المشبوهة مع أنظمة الاستبداد والخدمات التي يقدمونها له، وكذا أدوارهم في تضليل الشعوب، ونشر الوعي الزائف وتعميق ثقافة التخلف والانحطاط، خدمة للقوى الرجعية المتحالفة مع الاستكبار العالمي، وهو الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا برغبة القوى المتحكمة، في وضع حد لهذه الفئة المتاجرة بالمقدس والمغتنية به، وإذا اضفنا إلى ذلك البؤس المعرفي و الفكري الذي يزري بمكانتهم ك “علماء” دين محترمين، والذي ينكشف في طبيعة ردودهم على خصوم الإسلام و مخالفيه، حيث يبدو تواضعهم العلمي واضحا جدا، إلى درجة أن الإسلام نفسه ـ كما يظهر في خطابهم ـ يبدو هشا ومهلهلا، و غير قادر على الصمود في مواجهة مطرقة الأسئلة النقدية الحارقة، التي ما برح هؤلاء الخصوم يطرحونها، ويستفزون بها العقل المسلم غير المسلح بالعلم والفلسفة، أقول إذا أضفنا ذلك إلى ما سبق، توضح لنا ان كل الشروط والأسباب موجودة ليفقد هؤلاء ليس فقط تأثيرهم وسلطتهم على الشارع المسلم و لكن أيضا احترامهم.
يبدو أن الذين مكنوا لهؤلاء، ودعموهم وعملوا على صناعتهم، حتى ظن الناس أنهم فعلا “موقعون عن رب العالمين” و أنهم حراس عقيدته ودينه، هم أنفسهم الذين قرروا إنهاء سلطتهم، وإنهاء وجودهم بالمرة، فعملوا على نشر غسيلهم وكشف زيف تدينهم. كما يبدو وبالواضح، أيضا، أن الحقبة التي اعتبرت الحركة الإسلامية الأقوى في حلبتها، قد انتهت، أو على الاقل سيتم تقليص مساحتها، والتضييق فيها عليها في أفق الانتهاء منها.
ولكن إذا كانت هذه الحال هي حال الفئة “العُلمائية” إذا استعرنا هذه العبارة من عند رجال الدين الشيعة، وهي كذلك بدون شك، و هي التي تفسر لنا خروجهم من دائرة التأثير والفعل، وتحولهم إلى كائنات سلبية معرقلة لمسيرة التحرر والانعتاق، فإن السؤال الآن هو إلى اي حد يمكن أن يؤثر هذا الوضع على مستقبل الإسلام نفسه؟ وهل يمكن أن نتحدث عن مستقبل مظلم يتهدد الإسلام كدين؟
إنه على الرغم من قول البعض، أن انحراف هؤلاء الشيوخ والرموز عن الإسلام لا يعنيهم إلا هم، وأنه لا تأثير لانحرافهم على الإسلام، لأنه ـ كما يقولون ـ لا يجوز أن يحاكم الإسلام بأخطاء وخطايا المنتسبين إليه، وإذا كنا نعتبر هذا الكلام لا غبار عليه، إلا أننا نستشرف مستقبل الدين الإسلامي، انطلاقا من محددات ومؤشرات عدة، منها وعلى رأسها هذه الوضعية التي انتهوا إليها.
إن مما لا شك فيه، أن تحطيم الرموز والأسماء التي ترتبط بها الدعوة إلى دين ما أو إيديولوجيا معينة، مدخل مهم، ومهم جدا، للنيل من هذه الدعوة أو تلك، لأن بيان خيانة تلك الأسماء للدعوة، أدعى أن يجعل المنتسبين إليها من الزاهدين فيها، وذلك للأن الشك يسيطر عليهم، ويفقدون، بالتالي، الثقة في تلك الأسماء، كما في الدعوة ذاتها.
إن استخفاف الدعاة بالدعوة، يفقدها قيمتها ومصداقيتها و قوتها، ويشجع الناس على انتهاكها والانفلات منها، كما يزيد ذلك استفحالا، الهجمات المتتالية التي ما فتئ الإسلام يواجهها من الداخل و الخارج، ومن قبل أناس لم يعد يعنيهم شيء، وهم مسلحون بالوعي وبالمعرفة، والجرأة التي يتوسلون بها في التصريح بمواقفهم وتحديهم السافر للقائمين الإيديولوجيين، وما يجر إليه ذلك، من تشجيع غيرهم على أن يحذوا حذوهم، ويعلنوا خروجهم من الدين ويبرؤا منه، الأمر الذي يعني أن رقعة من يجرؤون على إعلان ردتهم عن الإسلام أخذة في الاتساع، في مقابل الخطاب البئيس الذي انتجه هؤلاء الدعاة، والذي لم يعد يصلح لشيء، ولم يعد مقنعا، لأنه ليس ملائما للمرحلة وليس في مستوى التحديات، والعاملون عليه لا يجتهدون لتطويره، وإبداع “علم كلام” جديد ، يستوعب المعطيات الجديدة، ويتعامل مع التحديات القائمة المهددة لثقافته، بخطاب جديد يمتح من الفلسفة و العلم، ولا غير.
إنه وأخذا بعين الاعتبار، تلك النهاية التي أضحت عليها الحركات الدعوية، بكل ألوانها وعناوينها، والنتيجة البئيسة التي حصلت عليها، كحصاد لسنوات عديدة من العمل الدعوي الدؤوب، والصورة التي كشفها عرابو هؤلاء الدعاة والمدبرين للمقدس، بلغة فيبر، وبؤس الخطاب الذي أنتجوه واستثمروا فيه منذ زمن، والهجمات التي يخوضها جمع ممن يجندهم الغرب، لإشغال العرب والمسلمين، وتوجيه بوصلة تفكيرهم، وعجز مثقفي الإسلام عن الرد عليهم الرد العلمي الجاد ، كل ذلك يؤذن بأن التساؤل حول مستقبل الحركة الإسلامية، ليس مبررا فحسب، بل يحمل جوابه في داخله، ويجعل التساؤل أيضا عن مستقبل الإسلام، مشروعا كذلك، ليكون الجواب عنه هو أن الإسلام الذي سيسود، في المستقبل المنظور على الأقل، هو الإسلام الذي لن يحتاج فيه المسلمون إلى “انبياء كذبة” أي إلى شيوخ و دعاة، وإنما سيكون كل واحد نبي نفسه وشيخها.
لقد قال أحد مفكري العرب أن ختم النبوة ليس معناه فقط، أن عصر النبوة قد انتهى، وعصر الانبياء قد ولى، ولكن معناه أيضا وعلى الحقيقة، أن الله نفسه، سيرفع وصايته عن الإنسان، وسيتوقف عن التدخل في شؤونه من خلال التأسيس لقواعد تشريعه وفرضها، وأن الإنسان اليوم هو الذي سيتولى أمر نفسه، وسيعمل على تدبيرها انطلاقا من قواعد عقله ومبادئه، وليس انطلاقا من إملاءات الله وتوجيهاته، التي يكرس بها رجل الدين سلطته.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14001