حول “استقلال القضاء” ودوره في ضمان عدالة المحاكمات

دينبريس
2022-12-06T07:11:28+01:00
آراء ومواقف
دينبريس6 ديسمبر 2022آخر تحديث : الثلاثاء 6 ديسمبر 2022 - 7:11 صباحًا
حول “استقلال القضاء” ودوره في ضمان عدالة المحاكمات

ذ.محمد جناي
من المقرر أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد في تفاصيلها وإجمالها ، يقول الشاطبي : ” مقاصد الشارع في بعث المصالح في التشريع ، أن تكون مطلقة عامة ، لا تخص بباب دون باب ، ولا بمحل دون محل ، ولا بمحل دون محل خلاف ، وبالجملة ، الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها “، ومن ذلك الولايات، فقد شرعت لمقصد كلي، يقول ابن تيمية:” أصل ذلك أن تعلم أن جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك ، وبه أنزل الكتب ، وبه أرسل الرسل ، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون” ، ويقول أيضا: “وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “، فالحاصل أن مقصود كل ولاية شرعية إقامة الدين، وحفظه، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هذا هو المقصد العام للولايات، وقد تنفرد كل ولاية بجزئيات حسب موضوعها ، فموضع الحسبة” الرهبة” ، وموضع القضاء” النَّصَفَة ” أي: إقامة العدل .

لهذا تلتزم الدولة الحديثة بإقامة العدل بين المواطنين ، فالقضاء بالعدل واجب على الدولة الالتزام به ، لأنه لا يستقيم أمر الأمة بدونه، فالخصومة من لوازم البشر، وتنازع البقاء سنة الكون، ولهذا كان القضاء فرض عين على الدولة ، يتعين عليها القيام به تيسيرا لأمور الناس ومصالحهم، ولتحقيق هذه الوظيفة ظهرت السلطة القضائية ، حيث يوجد في الدولة ثلاث سلطات ، سلطة قضائية وسلطة تشريعية وسلطة تنفيذية، ولا شك أن ظهور السلطات الثلاث له أثر على حريات الأفراد وحقوقهم ، حيث لا تتركز سلطات الدولة في يد واحدة ، فردا كان أو هيئة ، لأن كل سلطة مطلقة مفسدة مطلقة.

لهذا السب، يعد استقلال القضاء وهو موضوعنا ، ركيزة أساسية لتحقيق العدل ، وذلك يوجب النأي بالقضاء عن كل مؤثر يخل بحياده، ويراد به أن يكون القاضي بعيدا عن تدخل وتأثير أصحاب النفوذ والسلطان ، ومن أهوائه الشخصية ، ليتمكن من إصدار حكمه على وجه عدل ، وفقا لاجتهاده المبني على قواعد المرافعة، يقول النويري :” وإذا دعا الإمام رجلا إلى القضاء ، فينبغي أن ينظر في حال نفسه، وحال الناس الذين يدعى إلى نظر مظالمهم، فإن وثق من نفسه بالاستقلال والكفاية والاقتدار على أداء الأمانة ، فأولى أن يجيب ، فأما إن لم يعلم من نفسه الاستقلال ، فأولى له ألا يجيب “.

ولما كان القضاء ولاية مستقلة ، وكان محتاجا إلى من يرعى شؤونه وشؤون القضاة ، ولما صار إسناد تلك الرعاية إلى جهة معينة تصون استقلال القضاء مطلبا ملحا، لئلا تتخذ سبيلا للتدخل على القضاة أو التأثير عليهم ، ناسب إنشاء ديوان خاص يقوم على رعاية القضاء والقضاة ، وأول من استحدث الديوان الخليفة هارون الرشيد حين عين أبا يوسف واليا على شؤون القضاة ، وتتابع العمل على ذلك، وإن اختلف المسمى، وتقوم فكرة هذا الديوان على إقامة مجلس قضائي يشكل من كبار القضاة ، لرعاية شأن القضاء والقضاة، وذلك المجلس من أبرز ضمانات استقلال القضاء ، وذلك من خلال حسن اختيار القضاة الذين هم أساس الاستقلال ، وترشيحهم للتعيين، أو رؤية عزلهم، ومراقبة أحوالهم، والوقوف معهم في وجه المتدخلين، وحفظ هيبة القضاء، ورعاية الشؤون الوظيفية للقضاة، كالنقل ، والترقية، والندب ، وما يحتاجون إليه لأداء مهمتهم.

وقد ذكر الباحثون المعاصرون تعريفات لاستقلال القضاء ومنها :

” أن يكون القاضي بعيدا عن تدخل أصحاب النفوذ والسلطان في شؤون عمله ، حتى يتمكن من إصدار حكمه العادل ، وفقا لاجتهاده، وبناء على البينات المقدمة إليه”.

” أن يكون القضاة أحرارا في البحث عن الحق والعدل، دون أن يكون هناك تأثير من سلطة، أو ضغط من حاكم ، أو تدخل من ذوي النفوذ، وألا يخافوا في الله لومة لائم” .

” عدم وقوع القضاء تحت تأثير سلطة أو شخص، من شأنه أن ينحرف به عن هدفه الأسمى ، وهو إقامة العدل بين الناس، وإيصال الحقوق إلى أصحابها”.

“أن يكون القضاة سلطة من سلطات الدولة الثلاث ، وليس وظيفة من وظائفها، وأن يكون القضاة متحررين من أي تدخل ، أو إشراف، أو رقابة، غير متأثرين في قضائهم إلا بكلمة القانون العادل، وألا يكون ثمة تدخل في شؤونهم الوظيفية لغير السلطة التي يباشرون في ظلها رسالتهم “.

و لما كان العدل بين الناس أمرا واجبا ، وكان استقلال القضاء من أهم وسائل تحقيقه، فإن الاستقلال يكون أمرا واجبا ، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولأن للوسائل أحكام المقاصد ، ويدل لوجوب استقلال القضاء جميع النصوص الموجبة للعدل، والمحرمة للظلم.

إن الاضطلاع بمعرفة هذه المقاصد ، واستصحابها، يحمل القاضي على استشعار عظيم المسؤولية التي تحملها، وتقوده إلى سبل تحقيق هذه المقاصد بأقرب طريق ، وتكسبه اليقظة تجاه كل تصرف مناقظ لها ، مما يتحقق به أداء الأمانة وإبراء الذمة، ويمكن إبرازها في الأمور الآتية:

أولا : سيادة القضاء

فيكون الناس سواسية أمام القانون ، إذ هو المحتكم عند الخصام، فيجري أحكامه على البشر بلا تمييز أو تحيز ، ويحمل بمقتضاه الممتنع قسرا على الكف عن ظلمه، ويؤدى الحق إلى أهله، أيا كان أولئك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :” إنما هلك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وأيمُ اللهِ لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها.” ، وقال :” كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم “، وتلك السيادة لا يمكن تحقيقها إلا في ظل قضاء مستقل لا تتحكم فيه الأهواء والنوازع، وليس لأحد سلطان عليه إلا سلطان الشرع .

ثانيا : عدالة القضاء

فالاستقلال من الضمانات لتحقيق العدالة في القضاء الذي ما شرع إلا لإرسائها، وإذا خرق الاستقلال أو ضعف، وأصبح القضاء متأثرا بالأهواء رغبة ورهبة، فقد فقدت العدالة طريقها، وعري القضاء عن مقصوده، ولم يأمن الناس على حقوقهم، وعم الفساد ، واستحكم الضلال ، ولذا فقد حذر الله سبحانه كل حاكم من اتباع الهوى ، فقال :” يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِے اِ۬لَارْضِ فَاحْكُم بَيْنَ اَ۬لنَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ اِ۬لْهَو۪يٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬لذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اِ۬للَّهِ لَهُمْ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ اَ۬لْحِسَابِۖ” ( سورة ص الآية:25).

ثالثا: هيبة القضاء وقوته

وهذا المقصد مراعى في القضاء والقضاة، فالهيبة والرهبة في القضاة من قواعد نظرهم ، لتقود الخصوم إلى التناصف، وتكفهم عن التجاحد، وهذا ما جعل الفقهاء يراعون هذه الهيبة في أدق التفاصيل ، كلباس القاضي، وصفة مكان القاضي، وتأديب من استخف بأعوان القضاة ، وما من شك أن الاستقلال من أقوى ما يحفظ للقضاء والقضاة الهيبة والقوة ، وذلك لخلوصهم من أي سلطان عليهم سوى سلطان الحق والقانون ، وهي مصدر القوة والهيبة.

رابعا : نزاهة القضاء

فصيانة القضاء من كل ما يقدح فيه مقصد شرعي أصيل ، والاستقلال من أجلّ ما تتحقق به النزاهة، لتجرد القضاء المستقل من تدخل الآخرين في قضاء القاضي، وكذلك تجرده من أهواء القاضي ونوازعه الذاتية، إذ هو ممنوع بمقتضى الاستقلال من مباشرة نظر قضية فيها عليه تهمة من شأنها صرف الحكم إلى الجور ، ولو قضى في تلك الحال فإن قضاءه لا ينفذ، وذلك يعد إجراء احترازيا يحمي القضاء من مواضع الظنة، ليبقى قضاء نزها خالصا من شوائب الظلم وسبله.

وختاما ، تستوجب المحاكمة العادلة تمتع القاضي أو القضاة الذين ينظرون في الدعاوي بالاستقلالية، وأن إحترام الحق في محاكمة عادلة لا يقتصر على وجود قاض مستقل ينظر في الدعوى، بل يستوجب أن تكون السلطة القضائية مستقلة عن باقي السلطات، في غير هذه الحالة تكون الدولة قد أخلت بالتزاماتها الدولية .
ــــــــــــــــــــ
هوامش
(1):استقلال القضاء في الفقه الإسلامي،تأليف د. محمد بن عبد الله السحيم، النشر والتوزيع: دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى 1436.
(2) : استقلال القضاء، ورقة مقدمة لندوة بعنوان :”دور القضاء في حماية حقوق الإنسان ” ، التي نظمتها هيئة حقوق الإنسان بالرياض سنة 1437 من إعداد وتقديم : د. عبد المجيد الدهيشي.
(3):قانون القضاء المدني – دراسة في نظام القضاء وإجراءات التقاضي في قانون المرافعات – ، تأليف د. محمود محمد هاشم ، الطبعة الثانية ، 1990، بدون دار نشر .

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.