ذ. محمد جناي
تعتبر ليلة الإسراء والمعراج أكبر المعجزات الحسية التي حدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنبؤ بعلو مكانته عليه السلام وعظيم قدره عند الله تعالى، فقد صلى محمد صلى الله عليه وسلم فيها إماما بالأنبياء في المسجد الأقصى، وما ذلك إلا إشارة أن مقامه لا يعدله مقام، وأنه بلغ من التشريف ما لم يبلغه أحد، كما نزع الله في تلك الليلة ملك بيت المقدس من بني إسرائيل، وانتهت القيادة الروحية التي كانت لهم، وكان لهذه الليلة أثر عظيم في تثبيت فؤاد النبي عليه السلام وترطيب قلبه وجبر خاطره، بعد أن لاقى ما لاقى من قريش من إيذاء واضطهاد،وفي هذه الليلة أيضا فرض الله تعالى على المسلمين خمس صلوات في اليوم.
هي إذن ليلة أسري بها الله تعالى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى بيت المقدس بروحه وجسده معا، حيث أسري به راكبا على دابة تسمى البراق، بصحبة جبريل عليه السلام، وصلى هناك إماما بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء، وظل يصعد فيها حتى وصل إلى السماء السابعة، وهناك رفع إلى سدرة المنتهى وبعدها إلى البيت المعمور.
مع حادثة الإسراء والمعراج سنقف على ثلاث وقفات تلخيصا لسبب، وبحثا عن هداية نفس، وبيانا لموقف المسلم المعاصر منها .
فالوقفة الأولى: بين يدي الأسباب
فما أن توافينا الذكرى حتى يتبارى الفصحاء ببيان الأحداث التي سبقتها، فلا تكاد تسمع وتقرأ وتطالع إلا صور الإيذاء المتتابع للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، بداية من نزول الرسالة عليه، ووصولا إلى عام الحزن، وما تخلل ذلك من تطاولِ عمه أبي لهب وامرأته حمالة الحطب، وسفاهة أبي جهل ومناصريه، وبطشهم بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،وقد ألف الناس ذلك حتى ترسخ في الأذهان أن سبب الإسراء والمعراج ما كان إلا تثبيتا وترطيبا لقلب النبي صلى الله عليه وسلم من كل ما سبق، وأن إذا كان أهل الأرض قد خذلوك فالله ناصرك، وإذا أغلقت الأرض بابها، فإن السماء تناديك، إلى آخر ما تفيض به قرائح البلغاء في شأن الإرضاء، وجبر الخواطر، كأنهم قد تخيلوا أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قد وصل به الأمر إلى مشاعر المحبطين ، فهل كان الإسراء والمعراج ترضية للنبي – صلى الله عليه وسلم؟
إنه ربما يكون لهذا التفسير – لأحداث التاريخ في هذه الفترة – شيء من الوجاهة في بعض صوره، أما أن يكون ذلك الأسى هو سبب الرحلة على أساس أن الإسراء كان تثبيتا وترضية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وضع للشيء في غير محله، إذ لو كان ذلك صحيحا لما فرض الله عليه الصلاة، وهي أهم التكاليف، ولما أَطلعه الله تعالى على مصائر السعداء والأشقياء في الجنّة والنار، إذ إنه صلى الله عليه وسلم كان في رحلة تكليفية تخص كيانه العالي كنبي ورسول، له في هذه الليلة أمانات وبلاغ، وصلاة بالأنبياء، وحمل التكاليف لبلاغها، فهذه مسؤولية توجب البلاغ، وهو الوظيفة العظمى لكل رسول،فهل من المعقول أن نلغي طبيعة عمله ومسؤوليته صلّى الله عليه وسلّم في موقف من أهم مواقف البلاغ؟
كلا، فقد صعد وعاد صلى الله عليه وسلم وهو رسول مبلغ، لم تسقط عنه مسؤولية البلاغ لحظة، في كل زمان ومكان، في الأرض أو في السماء؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].
والله تعالى يقول: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]، فقد حددت الآية الكريمة الهدف من هذه الرحلة بقول ربنا: ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ﴾ [الإسراء: 1]، وهذه الرؤية هي رؤية من يرى ليبلغ، لا ليسعد ويأنس بما يرى فقط.
أما فيما يتعلق بأنه صلى الله عليه وسلم كان يحتاج إلى تثبيت بهذه الرحلة، فهذا كلام مردود،وذلك لأن الله تعالى قد ثبته بشرح صدره قبل الإسراء وليلته، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]، وذلك من جملة إعداد الله تعالى له.
كما أن الله تعالى قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلّدم عن القرآن الكريم: ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ [الفرقان: 32]، ولم يذكرْ كتاب الله أن شيئا يثبت قلب النبي إلا القرآن، ثم إن الله تعالى قد أعد نبيه صلى الله عليه وسلم إعدادا تاما قبل أن يبعثه، فما كان ليحتاج إلى أمثال هذه الرحلة، حتى يثبت قلبه.
نعم، كان النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة عمل بالدرجة الأولى، ولم تكن ترفيها محضا، فقد أرسل الله تعالى للخليقة منذ بدايتها الرسل والأنبياء،ليهدوا الخلق إلى صراط الله الحق، وما أجابهم في جمعِالزمان إلا القليل، كما كان الحال مع النبي نوح عليه السلام الذي قال الله تعالى عنه: ﴿ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40]، وذلك بعد رحلة دعوية استمرت لألف سنة إلاخمسين عاما.
وكان الرسل الكرام يخبرون الناس عن نعيم الجنة، وعن عذاب النار، مستدلين على صِدق ما يقولون بما لديهم من كتب أو معجزاتٍ مؤيدة لهم على صِدق دعواهم، كل هذا والناس كأنهم لا يصدقون، فالإيمان بالغيب ليس سهلا، ولذلك كان أول صفاتِ المؤمنين ذكرا في القرآن العظيم،قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون ﴾ [البقرة: 2 – 3]، ولكن الخلق منذ الزمان الأول كأنهم غير واثقين من قصة العذاب والنعيم في الآخرة، وكأن الله تعالى قد شاء أن يرفع أحد خلقه،ليقف على مشاهدات النعيم والعذاب، ومطالعة مصاير السعداء والأشقياء عيانا بلا حجاب، وكان هذا هو أفضل الخلق، وحبيب الحق، المعد لهذا الفضل بإعداد الله تعالى له.
لا غرو؛ فلم يكن أولى بهذا الفضل وهذه المنزلة إلا رسول الله، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فصعد إلى سماءٍ لا تطاولها سماء، وهناك ﴿ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 18]؛ ليبلغ للناس أنه رآها وطالعها، وليس من رأى كمن سمع، وذلك ليقيم الله تعالى تمام الحجة التامة على خلقه بتأكيد النعيم والعذاب والجنة والنار، على وفق ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي العين.
الوقفة الثانية: موقف الناس من الإسراء والمعراج
بعد نزول النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الرحلة المباركة، شرع في الإخبار عما شاهد، فقد كانت هذه الرحلة فتنة لجميع الأطراف، إلا الصادقين في إيمانهم، والثابتين كالجبال الرواسي، وكان الخبر مفاجأة سارة للمؤمنين الصادقين، وما زادهم سماعه إلا يقينا وتثبيتا، وكان في مقدمتهم الصديق أبو بكر رضي الله تعالى عنه الذي قال: “إنِّي أُصدِّقه في خَبَرِ السَّماء”، وذلك بعدما حاول أبو جهل عبثا نثر بذور الشكّ في قلبه.
على حين أنه كان فتنة لبعض الذين لم يشرب الإيمان في قلوبهم، فارتدوا عن الإسلام، وأما موقف المعاندين من صناديدِ الكفر، فقد اختصره أبو الحَكَم بن هشام، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: “أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بَيْت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدثهم بمسيره، وبعلامة بيْت المقدس وبعيرهم، فقال ناس: نحن لا نُصدق محمدا بما يقول، فارتدوا كفارا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل، وقال أبو جهل: يُخوِّفنا محمدٌ بشجرة الزقُّوم، هاتوا تمرًا وزبدًا فتزقَّموا”؛ مسند أحمد (5/183)، وإسناده صحيح.ولذلك قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 60]، نعم كانت الرؤيا فتنة مربكة للقلوب التي لا ترتكز على ركن شديد.
فقد أسفر العِناد عن وجهه القبيح مع صوت أبي جهل وأشباهه، وأسفر الإيمان الصادق عن مواقف الخير للصديق والمؤمنين، وأسفر الشك عن ارتداد البعض، وذلك شأن هذه المعجزة الكبرى،أنها كانتْ فتنة للبعض، وغربلة للصف الإسلامي قبل بناء الدولة بعد ذلك في المدينة بما يزيد عن عامٍ ونصْف العام.
ولا شك أن حال كثير من المسلمين يختصر الإجابة عن موقفه عند سؤاله، وهذا بالنسبة للعامة، بأعمالهم التي يتجلى فيها النزوع إلى الجنة والاستعداد لها، أو بالحراك البعيد عن هدْي الإسلام، كأنه قد نذر نفسه للعذاب.
وما زالت هناك مجادلات عقيمة، وكلام كثير من طوائف من المسلمين، والتي أرهقها المسير منذ أزمان في خطى عقيمة من البحث الذي لا طائل من ورائه، وما إلى ذلك من الكلام الذي لا طائل منه إلا زيادة البعثرة والتشتيت لمواقف الرموز من هذه الأمة، يجب أن نسير في طريق الإيمان الذي نال به أبو بكر رضي الله تعالى عنه لقب الصديق، ما لنا وبنيات الطريق المستوردة من خلف البحار، وما وراء النهر، وعلى أفق الجبال؟!
إنّ لنا دِينا يجب أن نتلقاه كما أنزله الله تعالى على قلب رسوله صلَّى الله عليه وسلم لا أن نتلقاه بفكرِفيلسوف، أو لسان مجادل، أو نخلط عليه قدرا من الموروثات الفكرية من الشرق أو الغرب، ولنا أن نعلم أن الصحابة الكرام كانت مواقفهم حيال هذه القضايا واحدة، أو على الأقل: قريبة مِن أن تكون واحدة، ولم يكنِ الشقاق والتنافر والبعد هي السمات الغالبة عليهم – كما في هذا الزمان.
ويتوجب على الأمة – بعد هذه المراحل مِن الجدل العقيم الذي لم نجنِ منه إلا قبض الريح – أن تهب قواها وإمكانياتها لتطبيق أحكامِ الدِّين في كل مجال، وأن نحاول إدراك الهدف من كلّ ما نقوله، ونطرحه ونعرضه، ولتحذر الأبواق اللامعة، والتابعون للفكر الدخيل من نتيجة ما يصدون به العباد عن الدين باسم التدين والتجديد.
إن موقف الناس يكاد يكون معروفا من قصة الإسراء والمعراج،وكما يقول البعض: لا تصرّح، فالحال ناطقة، ونطق الحال أبلغ دائما من نطق المقال، وأحوال الناس تسير كلها في دربين لا ثالث لهما، إما درب السعداء باتّدباع الشرْع والسيْر على محجته الغراء، فهؤلاء طلاب الجنة، وهم دائما قلة في كلّ زمان ومكان، وإما درب الأشقياء وكله فروع متعرّجة بمقدار سبل الغواية المرصودة على طريق النار، وبئس القرار، نعم ينبئنا واقع الحياة بين الناس بموقفهم الواضح مِن هذه الذكرى الحية.
الوقفة الثالثة: وديعة محمد صلى الله عليه وسلم
ومن ذكرى الإسراء والمعراج يجب ألا ننسى أن القدس وديعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل المسلمين، ففي درج البيان الذي يشرح التاريخ رسالة هامة لكل مسلم: أن عليه واجبا نحو البيت المقدس أيا كان موقعه وموضعه، وفحواها:
• أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى إماما بالأنبياء في المسجد الأقصى، وهذا معناه أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم لا يعدله مقام، وكذلك يجب أن تكون أمته، وفيه الإشارة أيضا إلى أن هذا المسجد المبارك قد تمّد ضمه إلى أخويه: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليتبوأ مكانه اللائق به ضمن مقدسات المسلمين.
• أن الله تعالى نزع الملك من بني إسرائيل على البيت المقدس والمدينة المقدسة، لما زاد طغيانهم وبعدهم عن شرع الله تعالى الذي ارتضاه لهم، وأن الأيام السود النحسات قد كشرت عن أنيابها أيضا للمسلمين القاطنين حوله، ولا أظن إلا أن الذين حوله هم كل المسلمين بديارهم، وكل أوطانهم، بسبب بعدهم عن الله أيضا، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124].
• أن التاريخ قد سجل منذ أزمان أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد فتحها، وأن صلاح الدِّين الأيوبيَّ قد حررها، فسجلوا أنفسكم في ديوان النصر، فإنه قادم لا محالة، وقد يبطئ زمنا،لكن له موعد قدره ربنا الرحمن سبحانه.
إن قضية فلسطين والمسجد الأقصى هي الجرح النازف، والوجع الدائم للمسلمين أجمعين، ويجب أن توضع في الأولويات على أساسٍ دِينيٍّ، كلُّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يتحملون أطراف هذه المسؤولية، وليس أبناء فلسطين وحدهم؛ بل إنها أم القضايا التي تفرض نفسها على عقول وقلوب المخلصِين من المسلمين، وهي كذلك شأن ذاتي لنا – نحن المسلمين – ومِن الحماقة ما يحدث من خلْط الأوراق، والمتاجرة بالقضية بجعلها خاصة بأهل فلسطين تارة، وتارة أخرى بأهل العروبة دونَ النظر إلى الدين.
إن المسجدَ الأقصى لن يحرر بالمفاوضات، ولا بموالاةِ الأعداء، فإنهم قومٌد بهت في أخلاقِهم، وإن الحق لا يوهب ولكنّه ينتزع، والأساس في الحراك من أجل القدس والمسجد المقدس يجب أن يكون على الدين، لا على العروبة، ولا من أجل أية علائق أخرى، بل هو الدين وكفى.
ومن نافلة القول أن نؤكد على أن الإسراء والمعراج كانا أكبر المعجزات الحسية لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وفيهما أيضا من سمات التشريف وعلو القدر ما لا يجمعه وصف بيان، أو بلاغة لسان، بل إن البليغ المجيد ليعجز حتما عن تصوير شرفِه الأسنى صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، إنما هي محاولات – إن كانت – لتقترب من بعض جميل معناه، وكرامته السامقة، وما أجمل ما قيل في حقه صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــ
هوامش
من مقال حسين شعبان وهدان ، “الإسراء والمعراج ” ،شبكة الألوكة (6-8-2009)، وبتصرف يسير
المصدر : https://dinpresse.net/?p=16651