19 أبريل 2025 / 22:32

جديد مركز المغرب الأقصى: الباحث عثمان زيني يفكك سيميائيات العنف عند تنظيم داعش

دين بريس. رشيد المباركي

“سيميائيات العنف: من البنيوية إلى الدلالة التأويلية. أناشيد “داعش” نموذجا”، هو أحدث الإصدارات البحثية العربية التي تهم قراءة الظاهرة الجهادية من خلال النموذج الداعشي، عبر بوابة السيميائيات، وأنجز هذا العمل، الباحث المغربي عثمان زيني.

مما جاء في مقدمة الكتاب، أنه يتمحور حول التحليل السيميائي لخطاب العنف، من خلال نموذج محدد، هو الأناشيد الجهادية لتنظيم داعش، في مسعىً إلى الكشف عن الآليات اللغوية والسردية والدلالية التي ت حوِّل هذه الأناشيدَ إلى أدواتٍ للتعبئةِ النفسيةِ والتسخيرِ الإديولوجي. ويعتمد البحث على المنهج السيميائي بوصفه إطارًا نظريًّا قادرًا على تفكيك التشاكلات بين مستويات الخطاب (الصوتي، التركيبي، الدلالي، التداولي)، وربطها بالسياق الثقافي والاجتماعي الذي ي نتجها.

ينطلق هذا الكتاب من إشكاليةٍ مركزيةٍ: كيف ينجح خطاب العنف، عبر أناشيد داعش، رغم طابعه العنيف وإيديولوجيته المتطرفة، في بناء عالمٍ دلالي متماسك ي حوِّل العنفَ إلى فعلٍ مقدسٍ. ويتفرع عن هذا السؤال المركزي أسئلة فرعية: ما الآليات السيميائية التي تعتمد عليها الأناشيد لخلق الانسجام بين الرموز الدينية والعنف المادي؟ كيف توظَّف الثنائيات الدلالية (نحن/هم، الخير/الشر) لبناء سرديةٍ وجوديةٍ تَستقطِب المتلقين؟ ما دور السياق الثقافي والتاريخي في تشكيل “التعليمات التأويلية” التي توجه قراءة النص؟

يثير هذا الإشكال قضية أخرى، تتصل بدور الإطار التلفظي والمحيط الكلامي والسياق الثقافي والاجتماعي الحاضن للنص في تشييد المعنى. ولا يجادل أحد، حسب المؤلف، في أن البنيوية شكلت إبدالا للقراءة القائمة على الحدس والانطباعية والقراءة الحرة، وكذا، عملت على تخليص النقد الأدبي ونظريات تحليل الخطاب، من المقاربات الخارج نصية التي تعتبر النص مجالا لاختبار نظريات إيديولوجية وفلسفية واجتماعية ونفسية.

بيّنّ المؤلف من خلال تحليل نماذج من خطاب داعش كيف أن المتلقي يتحول بدوره إلى منتج للخطاب، إذ في كل مرة يتم فيها تداول مقطع فيديو من إنتاج داعش عبر وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، بعد الصدمة الأولية، فإن ما سيحدث لاحقًا هو سلسلة من ردود الفعل التي لن تساهم فقط في إعادة إنتاج الحدث الأصلي، ولكن أيضًا إضفاء معنى جديد عليه. وبهذا المعنى، لن يتلقى المشاهد نفس الرسالة التي تم إرسالها إليه، ولكن سيكون لديه إمكانية إنشاء رسائل جديدة، تماما مثلما افترض لوتمان.

ينطلق هذا الكتاب من ملاحظة أن الخطاب الجهادي، وخصوصًا في شكله الداعشي، يعتمد بشكل كبير على آليات سيميائية معقّدة لتشييد واقع رمزي يخدم أغراضه الأديولوجية، إذ، على مستوى هذا النوع من الخطابات، لا يجري استعمال اللغة (اللفظية وغير اللفظية) لأنها فقط وسيلة للتواصل، ولكن بصفتها أداة لبناء عالم متخيَّل، يعاد فيه تعريف مفاهيم، مثل؛ الجهاد، والخلافة، والشرعية الدينية، والأنا، والآخر، في إطار استراتيجيات بلاغية ودلالية، تخلق حالة من الجذب والتأثير في المتلقي، مع التّوظيف الم منهج للسياقات الثقافية والدينية، على النحو الذي يخدم قصدية التنظيمات الجهادية في إضفاء الشرعية على أفعالها، وتوسيع قاعدة مؤيديها وأنصارها.

يستند هذا الكتاب إلى الفرضيات الآتية: يعتمد الخطاب الجهاديّ على تشاكلاتٍ بنيويةٍ بين المستوى الصوتي (الإيقاع الحماسي)، والتركيبي (تكرار الأوامر)، والدلالي (الثنائيات الوجودية)، والتداولي لتحقيق التماسك النصي والتأثير العاطفي؛ تُعيد الأناشيد تشكيلَ الرموز الدينية والتاريخية عبر التناص مع النصوص الدينية والأحداث التاريخية، لخلق شرعيةٍ وهميةٍ للعنف؛ لا يمكن فهم تأثير الخطاب الجهاديِّ دون ربطِ تحليلِ البنيةِ الداخليةِ بالسياقِ التداوليِّ (المتلقّي، الدراية الموسوعية للمتلقي، الزمان، المكان، الثقافة، المجتمع)، حيث تُحوِّل “التعليمات التأويلية” المستمعَ من متلقٍّ سلبيٍّ إلى مشارك فاعل في البرنامج السردي للخطاب.

يرى المؤلف أيضا أن التحليل السيميائي لخطاب العنف يُعد أداةً بالغة الأهمية لفهم البنى الدلالية والرمزية التي يعتمد عليها هذا الخطاب، حيث تمكن الأدوات السيميائية من كشف الطبقات العميقة من المعاني والرموز الدينية والسياسية والثقافية التي يتم توظيفها لتعبئة الأفراد وتبرير الأفعال العنيفة. من خلال هذا التحليل، يمكن فهم كيفية استخدام مصطلحات مثل “الجهاد” أو “الشهادة” أو “العدو الكافر”، والتي تحمل دلالات عميقة ت ستغل لتشكيل الهوية الجماعية وتحفيز الأفراد نحو التطرف. بالإضافة إلى ذلك، يساعد التحليل السيميائي على كشف آليات التلاعب بالمعاني، حيث يعيد الخطاب الجهادي صياغة المفاهيم الدينية والتاريخية لتخدم أهدافًا معينة.

ويُمكِّن تحليل الخطاب، أيضًا، من تحديد الجمهور المستهدف، سواء كانوا شبابًا يبحثون عن الهوية، أم أفرادًا يعانون من الإقصاء الاجتماعي، أو من يشعرون بالظلم السياسي، وخلق الحاجة لديهم في “الانتماء”، وهذا فهم يساعد في تصميم استراتيجيات مضادة تعتمد على تفكيك الرسائل الجهادية وإعادة بناء خطاب بديل يعالج احتياجات هذه الفئات بشكل إيجابي. كما أن التحليل السيميائي يلعب دورًا محوريًا في مواجهة التطرف، حيث يوفر أدوات لفهم كيفية تشكيل الخطاب الجهادي وتأثيره، مما يساعد في تطوير خطاب مضاد، عبر البرامج التعليمية، ووسائل الإعلام، يعمل على تفكيك الخطاب الجهادي وكشف تناقضاته.

وعلاوة على ذلك، لا يمكن فصل الخطاب الجهادي عن السياقات الثقافية والاجتماعية التي يظهر فيها. وي ساهم التحليل السيميائي في فهم كيف تتشكل هذه الخطابات في بيئات معينة، وكيف تستجيب لظروف مثل الفقر، التهميش، أو الصراعات السياسية، وي مكن لهذا الفهم أن يساهم في وضع سياسات للحد من انتشار التطرف، خاصة في المجتمعات التي تعاني مثل هذه الظروف.

وفي العصر الرقمي، أصبح الخطاب الجهادي يعتمد بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية لنشر رسائله. وهنا يأتي دور التحليل السيميائي لفهم كيفية توظيف الصور، والفيديوهات، ومختلف الوسائط الرقمية في نشر إيديولوجيته وتجييش الأتباع.

وأخيرًا، يُوفِّر التحليل السيميائي أدوات منهجية للباحثين وصناع القرار، مما يمكنهم من تطوير سياسات أكثر فعالية لمواجهة التطرف؛ إذ إن التحليل السيميائي للخطاب الجهادي ليس مجرد دراسة أكاديمية، بقدر ما هو أداة عملية لفهم كيفية تشكيل الأفكار والتأثير على الأفراد، وبالتالي المساهمة في مواجهة التطرف والعنف الذي يرتكب باسم الدين أو الهوية، وهذا لا تأتى دون من تفكيك هذا النوع من الخطاب وفهم آليات عمله.

جدير بالذكر، أن الكتاب موزع على قسمين مترابطين:

ــ الإطار النظري: يستعرض تطورَ السيميائيات من البنيوية (كريماس) إلى الدلالة التأويلية (راستيي)، مع التركيز على مفاهيم التشاكل، والتناص، والتسخير.

ــ التحليل التطبيقي: يُفكك نماذجَ من أناشيد داعش، مثل “يا جنود الحق هيا” و”القول قول الصوارم”، عبر مستوياتها الصوتية والتركيبية والدلالية والتداولية، حيث يتم إبراز دور السياق الثقافي والاجتماعي في تشييد المعنى. وقد حرصنا على وصف الخطاب الجهادي عبر مقاربة نقدية، ت ناقش حدودَ النموذج السيميائي في تحليل الخطاب العنيف، مع اقتراح مقاربات تكميلية (نفسية وسوسيولوجية) لفهمٍ أشملَ لظاهرة التطرف.