ثوابت الإسلام الحقوقية

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس7 مايو 2021آخر تحديث : الجمعة 7 مايو 2021 - 9:03 صباحًا
ثوابت الإسلام الحقوقية

ذ. محمد جناي
نعيش اليوم في عصر نستطيع أن نسميه عصر حقوق الإنسان ، لكن في حجم الاهتمام بها إعلاميا ونظريا فقط، أما من الناحية الواقعية فهذا العصر هو عصر امتهان الإنسان وإهدار حقوقه ، ومهما تكن الحقيقة فإن حجم الاهتمام النظري بحقوق الإنسان اليوم كبير جدا، حتى أصبح له قانون خاص يعنى بحقوق الإنسان، وهو فرع من فروع القانون الدولي العام، وأصبح له محاكمه الخاصة في العالم.

وإذا كان العالم الغربي احتاج ليصل إلى هذا القانون ومواثيقه إلى قرون من الزمن، واحتاج معها إلى ملايين القتلى والمشردين والمحرومين ، واحتاج كذلك لمدن وبلاد مخربة مدمرة عبر حروب كثيرة، وأنظمة مستبدة ظالمة عديدة ، وتاريخ مشوه بدماء البشر وأشلائهم، وقيود مكبلة للحريات بل والعقول من التفكير والإبداع والاكتشاف ، أقول إذا كان الغرب قد احتاج لكل ذلك ليفتخر اليوم بوصوله إلى مواثيقه النظرية لحقوق الإنسان ، فإن الإسلام بدأ حياته بنظام كامل متكامل يدور كله حول رعاية الحقوق والمحافظة عليها، ليس حقوق البشر فحسب ، بل حقوق خالق البشر أولا ثم حقوق البشر والحيوان بل والنبات والجماد كذلك ، فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق أجمعين: “وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةٗ لِّلْعَٰلَمِينَۖ (سورة الأنبياء، آية106).

ولم ينتظر الإسلام طويلا كي يعلن مواثيقه للحقوق عامة ، بل كان القرآن الكريم أعظم وثيقة حقوقية جامعة ، اشتمل على كل حق في الوجود بين الخالق والمخلوق ، وبين المخلوقات مع بعضها البعض، فمن ذلك قول الله تعالى :”قُلْ تَعَالَوَاْ اَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمُۥٓۖ أَلَّا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْـٔاٗ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰناٗۖ وَلَا تَقْتُلُوٓاْ أَوْلَٰدَكُم مِّنِ اِمْلَٰقٖۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْۖ وَلَا تَقْرَبُواْ اُ۬لْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقْتُلُواْ اُ۬لنَّفْسَ اَ۬لتِے حَرَّمَ اَ۬للَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّۖ ذَٰلِكُمْ وَصّ۪يٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَۖ (152) وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ اَ۬لْيَتِيمِ إِلَّا بِالتِے هِيَ أَحْسَنُ حَتَّيٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۥۖ وَأَوْفُواْ اُ۬لْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً اِلَّا وُسْعَهَاۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْب۪يٰۖ وَبِعَهْدِ اِ۬للَّهِ أَوْفُواْۖ ذَٰلِكُمْ وَصّ۪يٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَۖ (153) من سورة الأنعام، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تفصل في هذا الأمر ، بل القرآن كله حقوق كما قلنا.

أما الوثيقة الثانية في الإسلام فهي السنة النبوية ، وهي وثيقة مستمرة ليس في نصوصها الكثيرة التي راعت جانب الحقوق فحسب ، بل وتميزها في أنها كانت تطبيقا عمليا للوثيقة القرآنية ، ولم تترك هذه الوثيقة العظيمة لتقف عند جانبها النظري فحسب ، بل كان عهد نبوته صلى الله عليه وسلم خير تطبيق للقرآن الكريم ، وبجانب ذلك كان للسنة نصوص عديدة تثبت وتقرر حقوق الإنسان ، نكتفي بذكر مقتطفات من خطبه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع باعتبارها وثيقة جامعة خاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم أكبر تجمع للمسلمين في عهده، وفي آخر فترات النبوة ، وقد كان مما قال فيها وأعلنه للناس أجمعين:(( فإنَّ دِمَاءَكُمْ، وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، وأَبْشَارَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، ألَا هلْ بَلَّغْتُ قُلْنَا: نَعَمْ، قالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فإنَّه رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ لِمَن هو أوْعَى له فَكانَ كَذلكَ، قالَ: لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ …)).

وفي هذه النصوص نرى كيف جمع النبي صلى الله عليه وسلم الحقوق من جميع أطرافها، وجمع فيها التأكيد على حفظ النفس والنسل والمال ، وفصل في هذه الضرورات الثلاث، وأوصى بالنساء خيرا ، وأنهى العنصرية في التفريق بين أجناس البشر بناء على اللون أو القومية ،وجعل ميزان التفاضل بين البشر هو العمل، ولهذا جعل الإسلام نظام الكون كله قائما على أداء الحقوق ، ابتداء من حق الله تعالى على عباده ، وهو عبادته وحده لا شريك له، والقيام بالعبادات كما أمر سبحانه بها ، وهذه علاقة العبد وخالقه، ثم في حقوق المخلوقات مع بعضها البعض ، بل وحق الإنسان على نفسه.

لم يكن الإسلام سابقا في تثبيت حقوق الإنسان ومراعاتها فحسب ، بل ويتميز هذه الحقوق فيه بعدة مميزات كان أهمها ما يأتي:

أولا : الميزة الأهم والأبرز هي أنها ربانية ، فليس مصدرها البشر، وكونها ربانية يعطيها صفة القدسية، لذا كانت حقوق الإنسان مقدسة في الإسلام كونها جزءا من شريعة الله تعالى ، والربانية فيها تمنح صفة الإلزام، فليست الحقوق محل أخذ وعطاء ونقاش، وليست مرتبطة بتوافق أو معاهدة أو اتفاقية أو رغبة كما هي مواثيق الحقوق البشرية ، بل يجب الالتزام بها وتنفيذها ، لأن الذي وضعها وقررها هو من خلق الإنسان ، وهو من يعلم احتياجاته ومصالحه في الدارين ، وارتباط إثبات الحقوق بشرع الله تعالى مانع من الاستبداد أو المحاباة ، لأن الله تعالى لا يحتاج لأحد ، ولايضره أحد، وهو سبحانه غني عن عباده .

ثانيا : الميزة الثانية البارزة هي أن الحقوق في الإسلام ليست نظرية تجميلية ، بل هي حقوق طبقت على أرض الواقع منذ حكم الإسلام البلاد والعباد في عهد النبوة والخلافات الراشدة من بعده، فلم تكن دولة الإسلام دولة متناقضة في نصوص تخالف واقعها العملي، كما هو شأن دول العالم اليوم لا سيما الدول الكبرى منها، فما تعلنه هذه الدول من مواثيق تظهر به وجها جميلا، وماتمارسه على أرض الواقع في البلدان الضعيفة خاصة وجه آخر قبيح ، أما دولة الإسلام فكانت مضرب المثل في ممارساتها بنفس الدرجة التي كانت فيه مضربا للمثل في مواثيقها المعلنة .

ثالثا: الاهتمام بالجانبين المادي والروحي ثم الموازنة بينهما هي ميزة أخرى للحقوق في الإسلام، فالحقوق في الإسلام مبنية على نظرته لهذه الحياة ، فهو وإن أمر بتعميرها وتشييدها ، وأقام على الأرض أعظم حضارات الدنيا إلا أنه لا يرى هذه الحياة إلا طريقا إلى الحياة الحقيقية ، وهو بهذا يختلف عن مواثيق حقوق الإنسان الغربية في أنها تنظر إلى هذه الدنيا نظرة مادية، وأنها الهدف الأكبر ومنتهى الغايات ، لأجل ذلك لا يمكن أن تتوافق نظرة الإسلام للحقوق توافقا تاما مع النظرة الغربية بينهما عبثا، فبناء على نظرة الإسلام للإنسان والكون والحياة كانت الحقوق في الإسلام موجهة إلى الجانبين المادي والروحي ، وحقوق العباد هي مصالحهم، ومصالحهم في الدار الآخرة هي الغاية ، والاهتمام بها أهم ، مع مراعاة مصالحه في هذه الحياة.

رابعا : من مميزاتها كذلك أنها حقوق وواجبات في نفس الوقت ، فحقوق الله تعالى واجبات على خلقه ، وحقوق العباد واجبات تجاه بعضهم البعض، ولأجل ذلك فإن كثيرا من هذه الحقوق لا تقبل الإسقاط ، ليس فقط الحقوق الخالصة لله تعالى من الإيمان به وعبادته ، بل حتى حقوق الإنسان الخاصة ، فالتعلم حق الإنسان وواجب عليه في نفس الوقت ، وليس له إسقاط هذا الحق والرضى بالجهل ، وإلا لم يكن واجبا.

والتحديات التي تواجه الأمة اليوم كثيرة كبيرة ، والأمة أمامها تائهة ضائعة لا تجد حيلة ولا تهتدي سبيلا، وقد تكالبت عليها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، وأصبحت في مرمى كل قوس رميا وتسديدا، وتكاثر الأعداء عليها من داخلها وخارجها حتى أضحت ضعيفة أمام هذه التحديات ، وهي تحاول أن تصد هجمة عسكرية بربرية ، أو شهوة خلقية تغريبية، أو شبهة فكرية وتشويها معرفيا وثقافيا، وهي بحاجة لتدفع كل هجمة بسلاحها ، وتلجم كل شهوة بلجامها، وترد كل شبهة بحججها وبرهانها، وأن تكون مواكبة لمتغيرات العصر ومستلزمات المواجهة ، فتخلفها عن مواكبة العصر وأدواته هو من أكبر الثغرات التي أتيت منه الأمة، وأضاعت بسببه بوصلتها في الحياة.

ومن تلك الاهتمامات العصرية المهمة هو جانب حقوق الإنسان، فالعالم اليوم يتكلم بلغة الحقوق ويتبجح بها، وهو يعاني انفصام صارخ بين تنظيراته وواقعه، لكنه يحسن استخدام هذه القضية في إيجاد المبررات في محاربة المسلمين، وتوجيه التهمة لواقعهم ودينهم، رغم أن النظريات الغربية لا زالت قاصرة عن مواكبة ثوابت الإسلام الحقوقية، ورعايته لهذا الجانب العظيم، ورغم أن أكثر من يعاني من انتهاك حقوقه هم المسلمون أنفسهم ومن طرف الغرب نفسه، لكن الغرب بدوله الكبرى يتقن استخدام هذه الأداة ضد من يشاؤون ، في الوقت الذي لازال المسلمون متخلفين عن فهم ضرورة ولوج هذا الميدان بقوة، ومجاراة الخصوم في براعة التلويح والتنظير والتطبيق والضغط في مجال حقوق الإنسان ، وهم يملكون أعظم المواثيق الشرعية في ذلك، وهم أكثر من يعاني من الظلم والاضطهاد وانتهاك حقوقهم في العالم كله.

لذلك كان لابد من الجدية في تفعيل مؤسسات إسلامية حقوقية ترتفع عن قضايا الأمة ، وتدافع عن التصور الإسلامي للحقوق بشموله وواقعه وروعته، فالمؤسسات الحقوقية عندما تكون فاعلة في مجال الدفاع والمرافعة عن الحقوق في بلاد المسلمين وغيرهم فإن هذه المؤسسات عند ذلك تكون أكثر جهة بمقدورها الدفاع عن التصور الإسلامي لحقوق الإنسان،لأنها تنطلق من واقع الدفاع الذي تمارسه عنها وليس مجرد التنظير الذي يمارسه الآخرون، لذا فهي على ثغر عظيم من ثغور الإسلام عليها أن تكون على قدر المسؤولية في المرابطة عنده.

حيث إن من أهم مقومات تحقق المجتمع المدني هو فعالية مؤسساته المدنية على تنوع تصنيفاتها واهتماماتها ، فإن من واجبنا في سبيل إيجاد المجتمع المدني بخصوصيته الإسلامية أن يكون لنا اهتمام في تأسيس وإنشاء المنظمات القائمة عليه، والاستفادة من تجارب وأسبقية المؤسسات الحقوقية غير الإسلامية في العمل في هذا المجال من أجل الارتقاء بمؤسساتنا إلى العالمية لتحقيق الضغط المؤثر على صناع القرار في العالم ، وامتلاك أوراق التأثير الحقوقي الإيجابي في سبيل الدفاع والمرافعة عن قضايا الأمة في كل محفل محلي أو إقليمي أو عالمي، والمساهمة في قيام مجتمع سليم، ونظام حكم رشيد، ودعم قضايا الأمة سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا إلى غير ذلك من الجوانب.

وختاما : إن وضوح صورة حقوق الإنسان في الإسلام وتطبيقاتها لدى عديد من المسلمين -الذين حال الجهل بدينهم بينهم وبين الصورة الصحيحة النقية لحقوق الإنسان في الإسلام- خطوة على الطريق إلى الأمام نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة في العالم الإسلامي، فالإنسان هو أهم عناصر التنمية ، واستخراج طاقاته الكامنة وإبداعه لا يمكن أن يتم بمعزل عن انتمائه لأمته ووطنه، وهذا بدوره لابد له من معرفة الأفراد لحقوقهم ، وبدون ذلك لا يمكن أن تكون هناك نهضة.
ــــــــــــــــ
هوامش:
(1):فقه التحالف الحقوقي بين المؤسسات الإسلامية وغيرها ، أحمد غانم العريضي ،إعداد وحدة البحوث والدراسات في منتدى العلماء ، الطبعة الثانية 1439 /2018.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.