الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
لم تعد خطبة الجمعة اليوم مجرد موعظة تقليدية يلقيها الخطيب على عشرات المصلين داخل مسجد محدود في زاوية حي شعبي، بل تحولت بفعل التكنولوجيا وثورة الإعلام والسماوات المفتوحة إلى منبر عالمي يتجاوز حدود المكان والجغرافيا.
كلمة واحدة بسيطة قد تخرج من فم الخطيب وتُسجَّل بهاتف نقال لتصل في دقائق إلى ملايين البشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتتحول من نصيحة عابرة إلى فتيل فتنة أو دعوة صريحة للكراهية والعنف والإرهاب.
في هذا الزمن الحساس، صارت الكلمة أخطر من الرصاصة، والمنبر الديني سلاحا ذا حدين: إما أن يكون وسيلة للهداية والخير والطمأنينة، أو يتحول إلى قنبلة موقوتة تُشعل الفوضى وتفتح أبواب الفتنة.
لهذا لا بد أن يبقى منبر الجمعة على دوره الإيجابي المعهود والمعروف بين الناس، أي إرشادهم وتوجيههم ودعوتهم للتسامح والتعايش والتضامن والاستقامة والصلاح وحب الخير.
لكن بإمكان المنبر الديني أن يصبح أيضا على النقيض من ذلك تماما، وقد كشفت التجارب في كثير من البلاد العربية والأوروبية أن نهاية كل خطيب متنطع لا تكون إلا خلف قضبان السجون، بعدما حوّل منبره إلى منصة للتسميم الفكري ونشر الكراهية، متجاوزا في خطبه كل السياقات السياسية والقانونية بخطابات شعبوية تُغذّي التطرف وتُهدد السلم المجتمعي.
خطبة الجمعة في عصر السماوات المفتوحة لم تعد شأنا داخليا يخص جمعية المسجد أو بلدا بعينه، بل صارت شأنا عالميا قد تُستغل من جهات خارجية وتنظيمات متطرفة لتشويه صورة الإسلام وضرب استقرار الدول.
ومن هنا ندرك أهمية المبادرة التي قامت بها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية بتوحيد الخطب وتعميمها على المنابر؛ فالأمر لا يتعلق بتقييد حرية الخطباء كما يروّج البعض، بل بترسيخ حصانة روحية تحمي بيوت الله من أن تتحول إلى أبواق للفتنة أو أدوات رخيصة لتصريف أجندات سياسية خفية.
فخطيب الجمعة الذي يفتقر إلى الحكمة والموعظة الحسنة وفقه الواقع قد يكون أخطر من متطرف يحمل السلاح، لأنه يزرع بذور الفوضى باسم الدين ويفتح الباب لفتن لا أول لها ولا آخر.
وقد حصل هذا في أكثر من بلد إسلامي، كما حصل أيضا في بعض المساجد الأوروبية التي أُغلقت وطُرد أئمتها إلى بلدانهم الأصلية.
ومن هنا فإن حماية المنابر لم تعد رفاهية، بل ضرورة وجودية من قبل السلطات الرسمية، لأننا أمام مرحلة دقيقة: إما أن نعي خطورة الكلمة على المنبر، أو نترك الساحة مشرعة أمام دعاة الفوضى والدمار.
والأخطر من ذلك أن بعض الجماعات الدينية ما زالت تحاول اختراق المنابر واستغلال خطبة الجمعة باعتبارها وسيلة دعائية لترويج أيديولوجياتها متنكرة في شعارات دينية براقة.
هذه التيارات لا ترى في المنبر وسيلة للهداية والإصلاح، بل تعتبره منصة لتأجيج الكراهية والتحريض على الدولة وتمزيق النسيج الوطني، عبر زرع الشكوك في المؤسسات وإيجاد مبررات دينية للفوضى والانقسام.
لذلك فإن ضبط المنابر وتوحيد الخطب لم يعد خيارا، بل هو واجب وطني وأمني، حتى لا تتحول بيوت الله إلى ساحات لتصفية الحسابات أو قنوات لتمرير رسائل سياسية مشبوهة، فالكلمة على المنبر قد تُعيد للأمة وحدتها وقوتها، وقد تمزقها شر ممزق إذا تُركت في يد دعاة الفتنة وتجار مآسي الشعوب.
في الختام، تبقى خطبة الجمعة في زمن السماوات المفتوحة أمانة ثقيلة لا مجال فيها للارتجال أو العبث؛ فهي إما منارة للهداية والإصلاح، وإما وقودا للفوضى والفتن.
ومن هنا تفرض المسؤولية الوطنية والدينية التعامل الصارم مع هذا المنبر صونًا للوطن، وحمايةً للمجتمع، وحفاظًا على قدسية رسالة القرآن الذي أنزله الله على نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.