ذ. حسن حلحول
سنستهل هذه المقالة التحليلية بالأسئلة التالية: هل وباء كورونا الذي اجتاح العالم المتقدم قبل المتأخر سيغير في مواقف الدول المتصارعة في القضية الفلسطينية؟ هل سيبقى للأسلحة الذرية والبيولوجية الأهمية في حسم الصراع؟ هل جائحة كورونا ستغير الصراع من لغة القوة إلى منطق الحوار؟
الجذور التاريخية للقضية الفلسطينية
إن اليهود عبر تاريخهم لم يطمئنوا لأي سلطة عاشوا في كنفها، لذا تجد لهم حساسية شديدة تجاه السلطة المرتقبة، فبعد أن اختدموا الفراعنة في فترة إقامتهم في مصر، حيث رسم لهم نبي الله يوسف خطة الهجرة من أرض كنعان ، دبر لهم الإقامة في أرض مستقلة بهم، فحدث فرعون يوسف قائلا أبوك وإخوتك جاؤوا إليك، فأسكنهم في أفضل أرض مصر، وما أن اضمحل النفوذ العبراني مع الزمن، حتى كلفهم فرعون مصر الذي لم يعايش فترة يوسف بالعمل كسائر المصريين في الزراعة والبناء.
اعتبروا هذا التكليف إهانة لهم وعبودية، لأنهم لم يعتادوا على الاشتغال فيها نظرا للجاه والعز مع يوسف عليه السلام، فقرروا الخروج منها بعد مقامهم فيها أكثر من خمسة قرون.
وقد عرف الوجود اليهودي داخل المجتمعات، أشكالا متعددة مثل “حارة اليهود” في مصر” وقاعة اليهود أو المسبتة” في اليمن، و”الملاح” في المغرب، و”الشتتل” في شرق أوروبا، وفي اسبانيا كذلك كان لهم حي خاص بهم مغلقا و في ايطاليا نفس الشيء.
إن اللافت للنظر أن اليهود لم يربطوا في وجودهم بإطار جغرافي محدد، وبالتالي لم تكن الجغرافيا جزء من هويتهم، لهذا لما جمعوا شتاتهم في فلسطين، ظهرت الشخصية العدوانية اليهودية الإسرائيلية تجاه العرب، دون أن تكون لهم جغرافيا، ففوبيا شعب بلا أرض يستمدون منه عدوانيتهم تجاه العالم، فالتاريخ يشهد على معاناتهم في اسبانيا وفي روسيا وفي ألمانيا وفي فرنسا وفي بولندا، لأن اليهود عبر التاريخ انعزاليون يتجنبون الاختلاط والاندماج داخل المجتمعات التي يعيشون فيها. العزلة اليهودية الاختيارية.
إن تاريخ الاعتزالي لليهود، يبين لنا الجانب السيكولوجي والسوسيولوجي للطائفة اليهودية، ومن ثمة فهم طبائع داخل إسرائيل، وكذلك فهم العقل الإسرائيلي، فإذا كان داخل دولة إسرائيل حاليا، نجد هناك دويلة (اي منطقة او تجمع سكني كبير للمتطرفين اليهود) يملك السلطة فيها حاخامات، يمنع على الغير دخوله بل حتى على العلمانيين الإسرائيليين كذلك، فهذا السلوك الاعتزالي له امتداد تاريخي، يرجع إلى ما كان يسمى مثلا:
أ- الشتل: هو تجمع سكني لليهود منعزل ومنفصل اجتماعيا وتقليديا وعرفيا عن البيئة المحيطة بهم.
ب-القاهال: تعني هيئة أو جماعة تنظم حياة اليهود داخل منطقة واحدة يقيم فيها اليهود في مكان واحد، ومهام القاهال مشابه لمهام الدولة تجاه مواطنيها، وهي بمثابة الحكم الذاتي عهد إليها جمع الضرائب نيابة عنها، وتقوم بتعيين القضاة والحاخامات، وكانت لها صلاحية فرض الغرامات وسلطة الاعتقال. وفي أواخر القرن الثامن عشر تعرضت القاهال لنقد لاذع من قبل الناس لما طالهم من الظلم والجور.
وفي القرن التاسع عشر إبّان الحكم القيصر نيقولا الأول، اعتبر اليهود شعبا غير واضح يجب أن يتكيف مع الحياة العامة، وقد سن لليهود قانون التجنيد الإجباري وتم إلغاء القاهال وإخضاعهم للحياة العامة.
ج – الجيتو: هو عبارة عن حي مخصص لإقامة اليهود، وهو يمثل النموذج الأشهر للانعزالية، واستعمل هذا اللفظ يهود ايطاليا، تعني بالعبرية “جت” الانفصال أو الطلاق.
ولقد ظلت هذه العزلة الاختيارية قائمة، إلى إن صدر البابا بولس الرابع في ٩ النصف الثاني من القرن السادس عشر توصية لأول مرة بعزل اليهود إجباريا، ولقد كتب إسرائيل ابرما من يقول “قبل أن تصبح السكنى في مكان معين أو في الجيتو أمرا إجباريا، كان اليهود أينما وجدوا يتجمعون في مكان منعزل بالمدن التي كانوا يعيشون فيها”.
إن الغاية من الاعتماد على هذه المقاربة التاريخية في هذا الموضوع ،هو إظهار سوسيولوجية اليهود وسيكولوجيتهم لفهم عدوانيتهم، تجاه الآخر من الديانات الأخرى.
مراحل تطور القضية الفلسطينية
عرفت القضية الفلسطينية تطورات ترجع إلى الحقب التاريخية التالية: الحقبة الأولى: ظهور الحركة الصهيونية السياسية كفكر وسلوك سيماتها التعصب العنصري والتعصب الديني في فترة ما بين 1897 إلى 1914. هي حقبة جمع شتات اليهود في العالم بواسطة الوكالة اليهودية، مع العلم أن بداية الهجرات الصهيونية إلى الأراضي الفلسطينية، كان اعتبارا من عام 1881 في المحاولة الأولى لبلورة مجتمع صهيوني وفق المبادئ، الذي يقررها المؤتمر الأول الذي دعا له مؤسسها تيودورهيرتزل في 1897 في بال بسويسرا.
الحقبة الثانية: وهي التي تم إعلان فيه الحكومة البريطانية بتاريخ 2 نوفمبر 1917 عن وعد بلفور نسبة لوزير خارجيتها آرت جيست بلفور، معترفا بحق الصهاينة في إقامة وطن قومي في فلسطين، وفيه بدأت مرحلة أساسية من مراحل التغلغل الصهيوني. أنشأت قوة مسلحة من اجل إرهاب الفلسطنيين، ثم تم تقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق عربية ويهودية والانتداب البريطاني في سنة 1937. وبعد عشر سنوات اي 1947 إعلان عن انتهاء الانتداب البريطاني بفلسطين، وطلبت الأمم المتحدة بإيجاد الحل للوضعية القائمة.
الحقبة الثالثة: تبتدئ من تاريخ 14 ماي 1948 الذي تم فيه إعلان الكيان الصهيوني عن دولة إسرائيل، ففتحت الباب لقيام حروب بين العرب وإسرائيل، فأول حرب كانت بسبب رفض العرب لمشروع التقسيم في 1948 ثم تلتها حروب أخري 1956، 1967، 1973.
وفي سنة 1981 قامت بضربة انتقامية للمفاعل النووي العراقي بمباركة أمريكا، ثم حرب لبنان 1982 لتصفية حركة المقاومة الفلسطينية، ثم جاءت الحرب المفصلية التي وقعت في 2006 مع حزب الله اللبناني، الذي منيت فيه اسراىيل بالهزيمة.
وفي هذه الحقبة كانت هناك عدة اتفاقيات، اتفاقية كامب ديفيد مع مصر 1978، مؤتمر للسلام بمدريد في 1991، اعتراف بالمنظمة التحرير الفلسطينية والاعتراف بالحكم الذاتي في 1993، ثم اتفاقية واد عربة في 1994.
وفي هذه السنة تم إعلان عن صفقة القرن التي اشرف عنها صهر الرئيس الأمريكي كوشنير جاريد، وفي 2020/1/28 قام الرئيس الأمريكي دونا لد ترامب بإعلان عن هذه الصفقة، سميت بخطة الترامب للسلام بمباركة دول الخليج ورفضها بشكل قطعي الرئيس الفلسطيني محمود عباس كما رفضها الأردن والمغرب، وكان ترامب قد سبق أن أمر بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في 2017 وتم الاعتراف بالقدس كاملة عاصمة لإسرائيل. كل هذه الخطوات المتهورة لم تكتمل ولم تنضج حتى جاءت جائحة كورونا ولم يعد يتكلم عنها احد.
تداعيات وباء كورونا على القضية الفلسطينية
لم يكن العالم يوما يتوقع أن تعيش البشرية جمعاء، حالة من الذعر والهلع مثل ما هي عليه الآن، عندما انتشر وباء كورونا في جميع القارات في زمن قصير ووجيز، واستطاع أن يفرض على دول العالم ما يسمى بالحجر الصحي. وعرف هذا المصطلح الجديد انتشارا واسعا، ومما ينبئ بمرحلة تاريخية جديدة، وباتت تلوح في الأفق عدة مؤشرات على أن العالم ما بعد كورونا سيعرف نظاما عالميا جديدا غير الذي هو موجود حاليا بقيادة أميركا، لأن هذه الأخيرة عجزت عن قيادة العالم وتسييره نحو إستراتيجية موحدة لمكافحة الوباء، بل تركت كل الدول تعوم لوحدها، بل إنها تخلت حتى عن أوروبا حليفتها الاستراتجي، كما عرف الاتحاد الأوروبي هو بدوره انشقاقات أفرزتها كورونا لتعري على هشاشة الاتحاد في مجابهة الوباء.
ولقد أجمع كل الباحثين على أن الوباء أثر بشكل مهول على الاقتصاد العالمي، وعلى مالية الدول، وعلى بورصات العالم. أذا كانت إسرائيل تتمظهر بمظهر على أنها غير متأثرة بوباء كورونا وغير معنية به، ولن يؤثر ذلك في قوتها الاقتصادية المرتبط بأوروبا وأمريكا، فإنها تتعمد تسويق ذلك لكي تغطي على ضعفها وحتى لا تبين وتكشف عنه، وتعطي بذلك انطباعا للدول العربية غير حقيقي وهو أن أسطورة إسرائيل لا تقهر.
إن وباء كورونا سيجعل إسرائيل مرغمة أن تتخلى عن صفقة القرن المعلن عنها والتي لم يكتب لها أن تكتمل ولم تلق ترحيبا من كل زعماء العالم، كما ستجعلها مرغمة على الدخول مع العرب في مفاوضات حقيقية غير مبنية عن عنصر القوة، لتحقيق السلام الأبدي مع الفلسطينيين، كما سيجعلها مرغمة في التخلي عن هضبة الجولان عن الأراضي اللبنانية والأردنية.
الاقتصاد الإسرائيلي ما بعد كورونا
نعلم أن الاقتصاد الإسرائيلي مرتبط ارتباطا وثيقا مع الولايات المتحدة في اتفاقية الحرة ومع أوربا، فإذا كانت هذه الدول تعلن جهارا أن اقتصادياتها تعرف عجزا وانكماشا لم تعرف مثله إبان الحرب العالمية الثانية، بالتالي فإن الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعرف أزمة اقتصادية منذ زمن طويل، قبل وباء كورونا لن يكون بمعزل عنها، هذا فضلا عن الأزمة السياسية التي تعصف بها، بعد الانتخابات المعوقة التي لم تسمح بتشكيل الحكومة الائتلافية، فإنه ستتأثر تأثرا كبيرا أكثر من الدول العربية المحيطة بها، لأن وباء كورونا حسب المراقبين الماليين وكذا الصندوق النقد، يؤكدون على أن تأثير الوباء على الاقتصاد العالمي سيطول ولن يتعافى بسهولة، وانه سيؤدي ذلك الى ظهور اقتصاديات أخرى جديدة في آسيا، ويكون للصين الدور الكبير في تحريك وتحرير الاقتصاد العالمي، وتشارك أمريكا في تسيير العالم.
وموقف الصين من الصراع العربي الإسرائيلي، معروف لا ينحاز إلى أطروحة إسرائيل ولا يساير توجهاتها، بالتالي فان اقتصادها الهش المبني على المساعدات المالية الأمريكية، سيعرف انتكاسة كبيرة بظهور هذه القوة الاقتصادية الجديدة.
الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية ما بعد كورونا
طبعا إن أساس وجود إسرائيل كما رأينا مبني على استعمال القوة العسكرية، لترهيب العرب، لأن الشخصية اليهودية تعيش على الخوف الذي ركبها منذ قرون، وهو سبب معظم انفعالات العنف الذي يتولد عنها، وأن ما حدث لها هو أنها وجدت نفسها دائما على امتداد مراحل الصراع العربي الإسرائيلي في أشكال الصدام منذ البداية، وكان يعد متنفسا لها لتحقيق إجماع الإسرائيليين واثبات ان العنف هو مبدأ ثابت في أدبيات الصهيونية تجاه أعدائهم العرب، فبالرغم من كون إسرائيل انتصرت في معظم الحروب بدعم من أمريكا وبريطانيا وفرنسا، إلا أن هذه الانتصارات لم تحل المشكلة، بل أنها كلما انتصروا يجعلهم يواجهون مشاكل أكثر تعقيدا.
لقد شارك الشباب الإسرائيليون منذ 1948 إلى الآن، في كثير من الحروب، فكلما انتهت حرب اشتعلت أختها لأجل تحقيق السلام الدائم لهم، إلا أن الوضع بقي على حاله، فلم يكن هناك لا سلام مع العرب ولا استسلام من قبل الفلسطينيين. إن الخبراء العسكريين الإسرائيليين يدركون أن ألأسلحة التقليدية لم تعد تفي المطلوب، ولا يمكن لها أن تحقق أهدافها، خصوصا بعد الحرب التي خاضتها إسرائيل مع حزب الله الذي بين هذا الأخير على انه قوة يملك القدرة على مواجهتها، لما يملكه من الأسلحة الإيرانية المتطورة، وكذلك نفس الشيء بالنسبة لحركة حماس والجهاد الإسلامي، التي تملك الطيارات المسيرة. فيمكن القول ان قوة إسرائيل قبل تفشي وباء كورونا شيء وبعد تفشيه شيء آخر، فقد تتمثل القوة عسكرية العظمى في امتلاكها للقنابل الذرية والأسلحة البيولوجية لا تملكها الدول المجارة المتصارعة معها، فكانت تشهره وتلوح به بطريقة غير مباشرة تجاه إيران وحزب الله وسوريا، تستعرض به وقوتها.
ولكن ألا ترى إسرائيل أن وباء كورونا هو من صنع الإنسان، وأنه بيولوجي أتى على كل البشر ولم يميز بين الحدود ولا الدين ولا اللغة والذي انتشر في العالم بين القارات بسرعة والكل اكتوى به وعانى منه الجميع.
إذن الخلاصة التي نتوخى الوصول إليها وهي أن إسرائيل، وإن كانت تملك هذا النوع من السلاح الفتاك، فإنها ستعجز عن استعماله، ولن تكون لها الجرأة على استخدامه، لأن نتائج وباء كورونا واضحة وان أي استعمال لمثل هذا النوع من السلاح، فانه سيؤدي الى كارثة إنسانية أكثر من كورونا، هذا فضلا على ان أول من سيعاني ويصاب به هم الإسرائيليون أنفسهم قبل غيرهم، كما يقول المثل السيف سبق العذل، ولنا في الكورونا عبرة، فما وقع في الصين قد أصيب به القريب والبعيد، ولن تتخيل إسرائيل أن استخدام هذا النوع من السلاح ضد العرب او إيران، ستكون عواقبه بمنأى عنه. ولن تصاب به، فبعد انتشار وباء كورونا في العالم، فإن العرب لم يعد تخيفهم الأسلحة الإسرائيلية النووية كانت او البيولوجية طالما أن الشعب الإسرائيلي هو الأول من سيتضرر، لأنها ستأتي على الأخضر واليابس، كما يقول المثل علي وعلى أعدائي، كما أن العالم سيعرف ما بعد كورونا، توجهات جديدة أكثر صرامة للتعامل مع الأسلحة الفتاكة بالبشر لإزالتها، ومن بينها الأسلحة الإسرائيلية ونزعه المنطقة من هذا النوع من السلاح .
إن الصراع العربي الإسرائيلي لم يعد مقتصرا بين أطراف النزاع بل أصبح يهم البشرية جمعاء، فأي استعمال للسلاح البيولوجي أوالكيماوي سيكون تداعياته ونتائجه وعواقبه وخيمة على البشرية عامة فكورونا دليل على ذلك، بالتالي فان في تقديري ان كل أدوات ووسائل الصراع استنفذت ولم يعد، بعد وباء كورونا سوى الجنوح إلى السلام الحقيقي وأن تحل لغة الحوار بدل لغة السلاح، من أجل العيش بسلم وسلام وإلا سينطبق علي إسرائيل المثل ” الصيف ضيعت اللبن”.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7879