عمر العمري ـ دين بريس
يشير التساؤل “لماذا لا يكون البابا القادم أسود؟” إلى معضلة بنيوية داخل الكنيسة الكاثوليكية، تتجاوز رمزية اللون والانتماء الجغرافي لتطال موازين السلطة، وسؤال التمثيل، والتوتر القائم بين النمو الديموغرافي في الجنوب العالمي، واستمرار السيطرة المؤسساتية في الشمال الكنسي، وتحديدا في أوروبا.
للإجابة التحليلية عن هذا السؤال، ينبغي أولا تحديد الوقائع الأساسية:
أولا: بات التمدد الكاثوليكي في إفريقيا حقيقة إحصائية لا جدال فيها، حيث تظهر أرقام الفاتيكان أن إفريقيا تضم اليوم أكثر من 280 مليون كاثوليكي، وتمثل نحو 20% من مجموع الكاثوليك في العالم، مع أسرع معدلات نمو ديموغرافي للكنيسة الكاثوليكية عالميا، وأُضيف إلى القارة، خلال السنة الأخيرة من ولاية البابا فرنسيس، أكثر من سبعة ملايين مؤمن جديد، مما يجعلها القطب الصاعد في مستقبل الكنيسة.
ثانيا: لا يعكس التمثيل الكنسي في دوائر القرار هذا الوزن الديموغرافي، فبينما تشكل إفريقيا خمس الكتلة الكاثوليكية العالمية، لا يتجاوز عدد الكرادلة الأفارقة الذين يحق لهم التصويت في المجمع الكنسي 18 من أصل 135 كاردينالا، والأكثر من ذلك، لا يشغل أي من هؤلاء مناصب تنفيذية مركزية في الدوائر الرسمية، وهي قلب البيروقراطية البابوية، وفي نظري هذا الخلل في توزيع السلطة يشكل عائقا موضوعيا أمام إمكانية وصول إفريقي إلى سدة البابوية.
ثالثا: لم تنتج التقاليد الكنسية بعد سابقة حديثة لبابا غير أوروبي أو أبيض البشرة، باستثناء فرنسيس القادم من الأرجنتين، مع خلفية إيطالية واضحة، علما أن آخر بابا من أصل إفريقي – غيلاسيوس الأول – توفي قبل أكثر من 1500 عام، وهو ما يعكس فجوة طويلة في الاعتراف بالجنوب العالمي كمصدر محتمل للقيادة الروحية العليا.
رابعا: ما زال الإدراك الداخلي للكنيسة تجاه إفريقيا متأثرا بمركزية أوروبية ثقافية، إذ يشير عدد من اللاهوتيين الأفارقة إلى استمرار تصنيف الإيمان الإفريقي – وإن ضمنيا – باعتباره “إيمانا بسيطا أو عاطفيا”، دون أن ينظر إليه كمصدر متكامل للفكر اللاهوتي، هذا التصنيف يغذي مقاومة خفية تجاه فكرة أن يقود الكنيسة رجل أسود أو من الجنوب، حتى ولو تمتع بالكفاءة اللازمة.
خامسا: يواجه المرشحون الأفارقة المحتملون، رغم مكانتهم، عراقيل تتعلق بالملف العقائدي والهوية الإيديولوجية، فعلى سبيل المثال، الكاردينال “روبيرت سارا”، وهو أحد أبرز الأسماء المتداولة، يمثل تيارا محافظا جدا، قد يتعارض مع خط البابا فرنسيس في قضايا الانفتاح الاجتماعي، وعلى عكس من ذلك، فالمرشحون الأكثر اعتدالا مثل الكاردينال “بيتر توركسون” يتمتعون بتجربة فاتيكانية واسعة، لكن حضورهم الإعلامي والسياسي لا يرقى إلى مستوى الحظوظ الفعلية داخل المجمع.
سادسا: يضعف الانقسام الثقافي حول قضايا مثل “المثلية الجنسية” الموقف الإفريقي داخل الكنيسة العالمية، ذلك أنه بعد إعلان البابا فرنسيس عام 2023 السماح بمباركة “الأزواج المثليين” ضمن شروط كنسية، واجه اعتراضا واسعا من الكنائس الإفريقية، هذا الرفض، رغم أنه يعكس موقف القاعدة الشعبية في القارة، يجعل بعض الكرادلة يخشون انتخاب بابا إفريقي قد يعيد الكنيسة إلى مواقف عقائدية متشددة.
سابعا: تمارس السلطة داخل الكنيسة عبر آليات متداخلة من النفوذ، والإعلام، والعلاقات، إضافة إلى أن المرشحين “الواقعيين” للبابوية هم في الغالب أولئك الذين شغلوا مناصب مركزية، وحضروا اجتماعات حساسة، وأداروا ملفات عالمية، وعدد قليل جدا من الكرادلة الأفارقة أتيحت له هذه المسارات، ما يجعلهم في موقع متأخر عند بدء جولات التصويت.
ثامنا: لا تلقى الرمزية السياسية لانتخاب بابا إفريقي إجماعا داخل الكنيسة ذاتها، حيث يرى البعض، ومنهم لاهوتيون أفارقة، أن التركيز على لون البابا القادم قد يفهم كمحاولة شكلية للتمثيل دون تغيير فعلي في بنية السلطة، ويعتبر هؤلاء أن انتخاب بابا إفريقي سيكون فعلا فارغا إذا لم يقترن بإصلاحات تضمن إدماج الجنوب العالمي في دوائر القرار، وصياغة خطاب لاهوتي جامع يعبر عن الكنيسة العالمية، لا عن المركز فقط.
تاسعا: لا يبشرالسياق “الجيوكاثوليكي” الحالي بانقلاب في ميزان القوى، فرغم أن البابا فرنسيس زاد عدد الكرادلة من إفريقيا من 8% إلى 12% خلال ولايته، إلا أن نسبة كبيرة من المعينين لا تنتمي إلى تيارات تقدمية أو تحمل مشروعا تغييريا، بل في أحيان كثيرة، تمثل التعيينات توازنات محلية أو رمزية، ولا علاقة لها بتحرير رؤية استراتيجية لبناء قيادة جنوبية.
عاشرا وأخيرا: تتجه الإرادة السياسية داخل المجمع الانتخابي نحو اختيار بابا “معتدل”، يوازن بين الاستمرارية والتهدئة، لا بابا رمزي يفتتح مرحلة جديدة جذريا، وهو ما يجعل، حتى الآن، فرص مرشح إفريقي في الحصول على ثلثي الأصوات شبه معدومة، إلا في حال طرأت مستجدات كبرى.
ويستنتج، وفق ما ذكرته سابقا، أن غياب بابا إفريقي سببه تراكم تاريخي من المركزية، وضعف تمكين القيادات الإفريقية في الفاتيكان، وانقسام داخلي في الكنيسة حول الاتجاه العقائدي، ولا علاقة للأمر بالكفاءة أو الأهلية، وبالتالي يشكل السؤال عن “بابا أسود” امتحانا مزدوجا حول مدى نضج الكنيسة في احتضان تنوعها، ومدى قدرتها على تحويل خطاب الكونية إلى ممارسة فعلية في أعلى مستويات القيادة.
وإن لم يحدث هذا التحول في السياسة الدينية الكاثوليكية، فسيظل انتخاب بابا إفريقي فكرة مؤجلة إلى حين، مؤطرة بأمنيات الجنوب، ومحاصرة بحسابات الشمال.