عبد الفتاح الحيداوي
يشكل خطاب التطرف الديني إحدى أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، خاصة في السياقات التي تعرف تداخلاً بين الدين والسياسة والهويات الثقافية. وبينما لجأت بعض الدول إلى اعتماد مقاربات روحانية وصوفية لمحاربة التطرف، اختار المغرب الجمع بين هذه المقاربة ومقاربات أخرى، لكن ما يزال من الضروري إعادة التقييم والسؤال: أي المقاربات أعمق وأكثر تأثيرًا؟
لقد شكلت العلوم الاجتماعية والإنسانية، بمناهجها النقدية والتحليلية، أداة جوهرية في تفكيك خطاب التطرف وفهم أسبابه الجذرية. بخلاف المقاربة الروحية التي تركز على التزكية والتربية الفردية، تقدم هذه العلوم رؤية شاملة متعددة الأبعاد، تنطلق من تحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تؤسس لبنية التطرف. فهي تبحث في جذور الظاهرة، وتتفحص سياقاتها، وتضعها في إطارها البنيوي بدل الاكتفاء بتوصيف مظاهرها السطحية.
أولاً، تُمكن العلوم الاجتماعية من تحليل الأسباب العميقة التي تدفع بعض الأفراد، خصوصًا من فئة الشباب، إلى اعتناق الفكر المتطرف. الفقر، التهميش، غياب العدالة الاجتماعية، انهيار الأفق القيمي، والشعور بالاغتراب، كلها عوامل نفسية واجتماعية لا يمكن فهمها إلا بأدوات علمية دقيقة. كما أن هذه العلوم تساعد على تفكيك الخطابات الدينية المتشددة من خلال تحليل بنائها الرمزي واللغوي، ورصد تفاعلاتها داخل الحقل الديني والسياسي.
ثانياً، توفر هذه العلوم فهماً أفضل للتحولات الهوياتية والقيمية التي يعرفها المجتمع، وتُسهم في بناء خطاب بديل عقلاني ونقدي قادر على إقناع الفئات المستهدفة، بخلاف الخطابات الصوفية التي، وإن كانت ذات طابع روحي مسالم، فإنها غالباً ما تفتقر إلى البعد النقدي والتحليلي الذي يُمكنه مجابهة الفكر المتشدد بالحجة والبرهان.
رغم ما يُحسب للتصوف، في التجربة المغربية، من دور فعّال في تحصين النفوس وتربية الفرد على قيم السلم والتسامح والاعتدال، فإن أثره يظل جزئياً ومحدوداً ما لم يُدعَّم برؤية تحليلية علمية تتجاوز البُعد الوعظي إلى تفكيك جذور الظاهرة الجهادية. فالتربية الروحية، وإن كانت تهذب السلوك الفردي، فإنها لا تُصلح الاختلالات البنيوية العميقة، ولا تُعالج مظاهر التهميش واللامساواة التي تُعد من أبرز الحواضن التي يتغذى عليها الفكر المتطرف. والمفارقة أن الجهادي، في كثير من الأحيان، يبدو أكثر تشبثاً بالبعد الروحي من المتصوف، فهو يشتغل بالنصوص، ويؤمن أن عمله طريقٌ إلى رضا الله ودخول الجنة، ويستحضر في سياقه الجهادي آيات تعبّر عن الشوق إلى اللقاء الإلهي، مثل قوله تعالى: ﴿وعجلت إليك ربي لترضى﴾، ما يمنحه شعورًا بالمعنى والتضحية المقدسة. بل إن خطابه يتسم بصرامة فقهية ومنهجية، مما يمنحه قدرة على الإقناع داخل الأوساط الهشة، مقارنة بالتصوف الذي يفتقر أحيانًا إلى الحُجية التأويلية والقدرة الجدلية في السجال العقدي. من هنا، فإن مواجهة التطرف لا يمكن أن تُختزل في التصوف كحل وحيد، بل تستلزم مقاربة شاملة تمزج بين التربية الروحية، والتحليل الفكري، والعدالة الاجتماعية، بما يعيد للإنسان كرامته واندماجه، ويحرم التطرف من بيئته الحاضنة.
لذلك فإن مواجهة التطرف لا بد أن تستند إلى:
- قراءة تحليلية للظاهرة الجهادية بوصفها خطابًا عقلانيًا داخل منظومته، لا مجرد انحراف نفسي أو تشدد عاطفي.
- تأ صيل ديني عقلاني من داخل النصوص ذاتها، لمجابهة التأويلات الغالية، لا مجرد التعويل على المحبة والسلام.
- دمج البعد الروحي مع البعد الإصلاحي، في مشروع جامع يربط بين تزكية النفس وإصلاح المجتمع.
إن المغرب، بخبرته المتراكمة في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف، مدعو اليوم إلى تعميق رهانه على العلوم الاجتماعية والإنسانية، ليس فقط باعتبارها مجالاً أكاديمياً قائماً بذاته، وإنما بوصفها أداة استراتيجية محورية في فهم الظواهر المعقدة التي تشكل البنية الفكرية والنفسية للانحرافات المتطرفة. فالعلوم كعلم الاجتماع، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا، والفلسفة، تتيح فهماً معمقاً للسياقات الثقافية والدينية والاجتماعية التي تنتج التطرف، وتوفر أدوات علمية لتحليل آليات التجنيد والراديكالية، ومسارات التحول الفكري والسلوكي لدى الأفراد والجماعات.
إن استثمار هذه العلوم في السياسات العمومية، لا سيما الثقافية والتعليمية منها، من شأنه أن يعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والدين والمجتمع على أسس عقلانية ومتزنة، بما يعزز قيم التسامح، والتعايش، والتفكير النقدي، والقدرة على التمييز بين التدين الرصين والتطرف العنيف. ويقتضي هذا الاستثمار مراجعة عميقة للمناهج التربوية، وتضمينها لمضامين تحفّز على الحوار والتفكير الحرّ، وتُنمّي لدى الناشئة الحس بالمسؤولية الاجتماعية والقدرة على مواجهة الخطابات الإقصائية والمتشددة.
كما ينبغي أن ترافق هذه الجهود سياسات إعلامية وثقافية تسعى إلى تفكيك الخطابات المتطرفة، وتقديم بدائل فكرية وروحية تغني الفضاء العمومي وتُعيد الاعتبار للمشترك الوطني والديني والإنساني. في هذا السياق، تبرز أهمية بناء شراكات بين مؤسسات الدولة والمراكز البحثية والجامعات، من أجل تطوير مقاربات متعددة التخصصات، قادرة على إبداع آليات جديدة لمقاربة الظاهرة الإرهابية، ليس من زاوية أمنية فقط، بل من زاوية وقائية واستشرافية تُراهن على بناء الإنسان الواعي والمحصن فكرياً وروحياً.
إن الرهان على العلوم الاجتماعية والإنسانية في فهم ظاهرة التطرف لا يعني بأي حال من الأحوال تهميش التصوف أو النيل من أدواره التاريخية والروحية في تهذيب النفس وبث القيم السامية، بل هو اعترافٌ بضرورة المقاربة الشمولية التي تدمج البعد الروحي مع التحليل البنيوي والسياقي العميق. فالتطرف المعاصر، كما تدل عليه الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية والسياسية، ليس مجرد انحراف فردي في المنظومة الأخلاقية أو الدينية، بل هو نتاج تفاعل معقّد لعوامل متشابكة تتعلق بالهوية والانتماء، والهامشية الاجتماعية، وغياب العدالة، وتآكل المؤسسات الوسيطة، وضعف السياسات العمومية، إلى جانب الإحباطات الاقتصادية والثقافية.
إن الاقتصار على التحصين الأخلاقي والروحي، رغم ضرورته، لا يكفي وحده لدرء مخاطر التطرف، لأن الظاهرة لا تنبع فقط من فراغ روحي، بل من أرضية اجتماعية خصبة تُنتج القابلية للانجراف نحو التطرف. فالشاب المهمّش، الذي يعيش في بيئة يطبعها الفقر، وانعدام الفرص، وغياب أفق المعنى، يكون أكثر عرضة للانخراط في جماعات تقدم له هوية بديلة، وشعورًا بالتمكين، وتفسيرًا مبسطًا للواقع.
من هنا، يصبح الرهان على العلوم الاجتماعية والإنسانية (كعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، والأنثروبولوجيا، وعلوم الاتصال، والدراسات السياسية…) رهانًا على تشخيصٍ عميق لجذور الأزمة. فهذه العلوم تمتلك الأدوات اللازمة لتفكيك البنية الخطابية للإيديولوجيات المتطرفة، وتحليل السياقات الاجتماعية التي تنتج “القابلية للتطرف” بتعبير مالك بن نبي، وفهم منطق التأطير والتجنيد، بل وحتى تقنيات نشر الكراهية والدعاية عبر الوسائط الحديثة.
إن التحدي الحقيقي، إذن، لا يكمن فقط في تحصين الفرد من الناحية الأخلاقية، بل في إصلاح المنظومة الكلية التي تُنتج الأزمات النفسية، والتشوهات المعرفية، والاختلالات الاجتماعية التي تُهيّئ الأرضية للتطرف. ويشمل هذا الإصلاح السياسات التربوية، والنموذج الثقافي، والإعلامي، والعدالة الاجتماعية، وبناء الثقة في المؤسسات، وتمكين الشباب من فرص العمل والمشاركة السياسية والفكرية.
وبهذا المعنى، لا يتعارض التصوف كرافد تربوي وقيمي مع العلوم الاجتماعية، بل يمكن أن يتكامل معها في إطار مقاربة متعددة الأبعاد، حيث يعتني التصوف بالجانب الوجداني والروحي، بينما تكشف العلوم الاجتماعية آليات التأطير والتعبئة والبنية التحتية للظاهرة، وتساعد في صياغة السياسات الوقائية والعلاجية الأكثر نجاعة.