بعض مما أخفاه حسن البنا: هل كان موزعا بين رغبتين متعارضتين؟
عمرو عبد الحافظ
باحث في الإسلام السياسي
في رسالته “إلى أي شيء ندعو الناس” يقول مؤسس الإخوان حسن البنا: “القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة”. ثم يقول في رسالته “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي”: “والإسلام مع هذا يعتبر الأمة الإسلامية أمينة على رسالة الله في أرضه، ولها في العالم مرتبة الأستاذية، ولا نقول مرتبة السيادة، بحكم هذه الأمانة”. يقف القارئ هنا أمام تناقض ظاهر في كلمات البنا؛ إذ يثبت للمسلمين السيادة في الأولى وينفيها في الثانية، ويتساءل عن السبب، ويفترض بادئ الأمر أن البنا قد راجع قوله الأول الذي كتبه نحو عام 1934 وتبنى قوله الثاني الذي صرح به في غضون عام 1947، لكنه لا يرى في كتابات البنا المتلاحقة بين العامين ما يشير إلى دليل قوي على أن البنا قد راجع أيا من قناعاته وأفكاره، ويظل القارئ متحيرا حتى يقع على نص يكاد أن يكون مفتاحا لتحليل أعمق وأبعد.
في رسالته “بين الأمس واليوم” الصادرة نحو عام 1939 يقول البنا مخاطبا جموع الإخوان: “أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية… أما الآن فلا زلتم مجهولين ولا زلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد… سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء… وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء”.
يمعن القارئ نظره في هذه الكلمات ويعود ليقرأ في ضوئها تناقض البنا سالف الذكر، ويكتشف أن رسالته “مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي” كانت موجهة إلى رئيس الحكومة وأعضاء الهيئات النيابية ورؤساء الهيئات الشعبية السياسية والاجتماعية، بينما لم تكن رسالته “إلى أي شيء ندعو الناس” على هذا النحو؛ ما يرجح أن البنا خشي التصريح برأيه الحقيقي وهو يخاطب من يتحسب لعداوتهم. ومما يدعم هذا الرأي أن البنا كان قد أوضح في رسالته “بين الأمس واليوم” أهداف جماعته؛ فقال إن لها هدفين أساسيين هما: “أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي… وأن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي”، ثم ذكر بعد ذلك عدة “أهداف خاصة لا يصير المجتمع إسلاميا كاملا إلا بتحقيقها” على حد تعبيره؛ فكيف يؤكد بعد ذلك أن الناس لم تعرف بعد مرامي الجماعة وأهدافها؟! ولا يخرجنا من هذه الحيرة إلا كلمات البنا ذاتها التي يتوقع فيها خصومة شديدة من أطياف متعددة في المجتمع حال معرفتهم بأفكار الجماعة الحقيقية. ويقوي ذلك الرأي ما يجده قارئ رسالة “بين الأمس واليوم” عند حديث البنا عن الوسائل التي ستستخدمها جماعته لتحقيق أهدافها؛ يقول البنا: “وقد تكون إلى جانب هذه الوسائل العامة وسائل إضافية لا بد من الأخذ بها وسلوك سبيلها، منها السلبي ومنها الإيجابي، ومنها ما يتفق مع عرف الناس ومنها ما يخرج على هذا العرف ويخالفه ويناقضه، ومنها ما فيه لين ومنها ما فيه شدة”. ولا يكتفي البنا بهذا الغموض عند حديثه عن الوسائل وآليات التنفيذ، غموض ستكشفه أحداث السنوات التالية، عندما تكتشف أجهزة الأمن المصرية وجود تشكيلات إخوانية مسلحة، عرفت باسم النظام الخاص الذي تأسس بالتزامن مع حديث البنا عن وسائله غير المألوفة. ولكن كلامه يظل منطويا على غموض أكبر؛ إذ لا يبين لماذا يبدو فهمه للإسلام غريبا على أهل التدين والعلماء الرسميين الذي تلقوا علوم الإسلام في الأزهر الشريف ومعاهد علمية معتبرة، ولا من أي مصدر تلقى هو ذلك الفهم الغريب عليهم.
في عام 1938 ألقى البنا خطابا مطولا في المؤتمر الدوري الخامس للإخوان، وقال للمتحمسين المتعجلين منهم: “إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده، ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقا طويلة ولكن ليس هناك غيرها”. وفي محاولة منه لطمأنتهم يضع معيارا لبدء التنفيذ: “وفي الوقت الذي يكون فيه منكم، معشر الإخوان المسلمين، ثلاثمئة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحيا بالإيمان والعقيدة، وفكريا بالعلم والثقافة، وجسميا بالتدريب والرياضة؛ في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله”.
وفي الخطاب ذاته يعلن البنا أنه سيجيب بوضوح عن سؤال يطرحه كثيرون: هل في عزم الإخوان أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم؟ ويطيل الحديث عن مكانة القوة في الإسلام، كما يتصورها، وعن ضرورة الموازنة ببن نتائج نافعة وضارة لاستخدام القوة، ثم يعلن في وضوح: “إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة”.
ثم يعود ليسكب ماء باردا على كلماته الساخنة، فيقول: “وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها”.
وهكذا يرسم البنا الحيرة على وجوه مستمعي خطابه وقارئي رسالة “المؤتمر الخامس”؛ إلى الحد الذي يختلف معه قادة الإخوان في تأويل كلماته.
في كتابه “منهج التغيير عند الإمام حسن البنا” يستشهد جمعة أمين، النائب السابق لمرشد الإخوان، برسالة المؤتمر الخامس ويرجح أن منهجية الجماعة إصلاحية متدرجة، يقول: “وكان بين الإخوان أناس متحمسون مستعجلون لا يحسنون التعامل مع سنن الله في خلقه ولا يعرفون خلق الأناة والصبر ولا قانون التدرج ويريدون قطف الثمرة قبل أوانها، وقد عانى المرشد من هؤلاء ما عانى، وبعضهم فقد صبره تماما فخرج من الجماعة، وبعضهم بقي ولكنه يشعر بالقلق ويستطيل الطريق”.
وفي كتابه “تنظير التغيير” يتبنى محمد الراشد، القيادي الإخواني عراقي الجنسية، الرأي الآخر مستشهدا كذلك برسالة المؤتمر الخامس ويؤكد أن “الذي يمنع التغيير بالقوة هو الواهم مهما تقلد من مناصب دعوية بل هو المحرف المبدل لكلام الإمام البنا والطامس لظاهر المعاني التي قصدها؛ فنظريته ثورية واضحة ولكنها غير متهورة ولا هدامة ولا تتوسع في الدماء”.
ويرجح الباحث هنا أن حسن البنا كان موزعا بين رغبتين متعارضتين: رغبة البوح بأفكاره لاجتذاب الأتباع والأنصار، ورغبة الكتمان بهدف تحصين مسيرة جماعته ضد عداوات مرتقبة؛ فظل حياته كلها يراوح بين الرغبتين، فيميل إلى البوح حينا وإلى الكتمان حينا آخر، ولعل رحيله المفاجئ والمبكر عن دنيا الناس عن عمر ناهز ثلاثة وأربعين عاما؛ يشي بأنه لم يعلن على الملأ أفكاره كلها، وأنه ربما أسرّ بها إلى عدد محدود من المقربين؛ لنصبح بعد عقود طويلة من تأسيس الإخوان أمام جماعة تبطن من أفكارها بقدر ما تظهر.
التعليقات