براءة ليبيا مما نُسب للتصوف من دوافع سياسية واستبطان للمعاني الفلسفية الغامضة

11 نوفمبر 2025

د. أسامة بن هامل

رئيس مركز الشيخ أحمد القطعاني للثقافة والدراسات الإسلامية

هذه البراءة ليست ادعاء لحظيا ولا نزعة دفاعية متأخرة، بل حقيقة تستند إلى مسار تاريخي طويل ضمن تراث حافظ على نقائه وأصالته عندما اختطت المسالك وتعددت التأويلات في أقطار إسلامية أخرى، فالتصوف في ليبيا لم يكن حيلة للسلطة ولا مشروعا فلسفيا يختفي بلبوس الصلاح والسلوك والتربية، بل يخبرنا التاريخ والواقع أنه كان منهجا تأسس على مفاهيم إنسان الإحسان ولا يزال إلى اليوم.
انتهى شيخنا الأستاذ الكبير سيدي أحمد القطعاني، رحمه الله، بعد بحوث معمقة إلى أن الإمام عبد الله الشعاب (ت 243هـ/ 858م) هو أول صوفي ظهر في كل أفريقيا؛ فابن مسرة هو من أدخل التصوف إلى الأندلس في القرن الرابع الهجري، وابن العريف من أدخله إلى القطر المغربي في القرن السادس، أما تونس والجزائر فلم تعرفه إلا بعد ذلك بقرون، وكذلك سائر أقطار القارة من وسطها إلى جنوبها لم تعرفه إلا بعد القرن الرابع الهجري، أما مصر فتأتي في المرتبة الثانية بعد القطر الليبي في معرفة أفريقيا للتصوف على يد ذي النون المصري (ت 245هـ وقيل 248هـ)، غير أن شيخنا القطعاني يلفت إلى مقارنة بين الرجلين تكشف عن تميز المرحلة في القطر الليبي، إذ يقول: “مقارنة بين ما قاساه ذو النون في مصر وسعايتهم به إلى الخليفة المتوكل العباسي حتى استحضره من مصر إلى دار الخلافة ببغداد، بل وذكرت الرسالة القشيرية أن يديه في الغل، ورجليه كانتا في القيد، وفي حلية أبي نعيم أنه سجن لمدة، وقد قابله المتوكل العباسي فوعظه ذو النون فبكى المتوكل ورده مكرما. وبين التقدير والاحترام والتكريم الذي حظي به الشيخ عبد الله الشعاب في عصره وبعده وإلى الآن تجعلنا نلاحظ ذلك بينا، لذا فالذي يسجل هنا ليس أن التصوف عرف في ليبيا قبل مصر بكثير فقط، وإنما قد نظر إلى رجاله بالنظرة المحترمة الجديرة بهم في أرجائه قبلها”. أ.هـ (موسوعة القطعاني ج1، ص 70 – 71)، فريادة الإمام الشعاب لا تقاس في الزمن فقط بل في قبول الأوساط ويسر الظروف.
أما عن أصول تصوف الإمام الشعاب، فقد أشار ابن غلبون في “التذكار” إلى أن الإمام الشعاب “كان على سنة الجنيد” في إشارة إلى إمكانية أخذه عن الجنيد أو عمن اتصل به، لكن لي في هذا الرأي نظر، فعند وفاة الإمام الشعاب كان عمر الجنيد يزيد على العشرين بقليل، ما يجعل صلته به من خلال المشرب لا الأخذ المباشر، ويشير شيخنا القطعاني في ذات بحوثه حول الإمام الشعاب إلى أخذه التصوف على يد رجاله في طرابلس، إذ يلفت إلى قول الإمام سحنون المعاصر للإمام الشعاب، إذ توفي 240هـ، “لقيت بطرابلس رجالا ما الفُضيل بن عياض بأفضل منهم”، ويعلق عليه بقوله “فلا شك أن قياسه لمتصوفة ليبيا على صوفي بحجم الفضيل عياض (ت 187هـ) أحد أهم أعلام التصوف في المشرق يوضح مستوى التصوف الذي بلغته البلاد وقتها”، وهو ما يعني أن القرن الثاني الهجري كان قرنا صوفيا متكاملا في طرابلس، بل ما يشير إليه صراحة عندما وصف زاوية الإمام الشعاب في عديد المواضع في موسوعته بـ «المدرسة الشعابية» بوصفها أول نواة مدرسية للتصوف الليبي (للمزيد ينظر: المدرسة الصوفية الشعابية: رؤية سيسيوتاريخية في مراحل تشكل التصوف الليبي، وهو مرفوع على صفحتي هنا).
أما دخول الأفكار الفلسفية على بعض مذاهب المتصوفة في المغرب والأندلس، فسببه باعتقادي هو تلاقحهم مع الاتجاه الأشعري المتأخر الذي تبنّى بعض مقولات الإمام الرازي، وهو ما لم تعرفه ليبيا قط اتي ظلت عبر تاريخها محافظة على ثلاثية الأصول: المالكية، الصوفية الشعابية، والأشعرية على اختيار المتقدمين، من غير انحراف إلى الغلو الفلسفي أو الانغلاق الاعتزالي، ومن أراد دليلا على ذلك فدونه ما كتبه علماء ليبيا في العقيدة نظما وشرحا من القرون الأولى حتى العقود الأخيرة حين تسربت إليها نحلة الوهابية مطلع التسعينيات، كما أننا نجد في ثنايا التاريخ مقاومة كبيرة من علماء البلاد لمحاولات تسرب الأفكار المشوهة، ففي رسائل سيدي عبد السلام الأسمر إلى أتباعه في غريان نجد تحذيرا صريحا من “أفكار المعتزلة” وتشديدا ودعوة للتمسك بالعقيدة الراسخة في البلاد، وقبله تأسست مدرسة ابن أبي الدنيا (ت 684هـ/1285م) في طرابلس، التي لم تكن تُدرس سوى كتب الجويني والغزالي وحافظت بذلك على النسق الأشعري الأصيل.
بهذه الاستمرارية دون انقطاع تميز القطر الليبي عن سائر الأقطار المغاربية، إذ كان القطر الوحيد الذي صان ثلاثية الأصول في توازن دقيق: المذهب المالكي الذي دخل بموطأ الإمام مالك لأول مرة على يد علي بن زياد الطرابلسي (ت 183هـ) وأول من فسر أقوال الإمام مالك، والتصوف الذي عرف على يد الإمام الشعّاب ومدرسته، والعقيدة الأشعرية على اختيار المتقدمين على يد القلانسي وأتباعه؛ ولهذا لم تعرف ليبيا الشطح ولا الانحراف، بل وُلد على أرضها أحد أهم كتب التصوف في تاريخ الإسلام “قواعد التصوف” للإمام زروق الذي لم يُسبق إليه في تقعيد الذوق وتوثيقه بضوابط الشريعة، إذ أظهر الارتباط الوثيق بين التصوف والفقه والعقيدة.
وعلى يد زروق، وقبله وبعده، تواصلت في ليبيا حركة فكرية مقاومة لكل ما شوّه التصوف أو انتقص من علميته، فظهرت مدونات تثبت أصالته وتبرئه من الشبهات وتجعل منه تيارا إصلاحيا فكريا متجددا، فعلى أرضها دخل التصوف المغربي طورا جديدا بتبني إذ من الإمام عبد السلام الأسمر مدرسة الشكر الشاذلية بديل مدرسة الصبر وانبثت على يديه في كل أقطار المغرب العربي.
أما في السياسة، فلم يعرف تاريخ ليبيا أن استخدم التصوف فيها لتزيين سلطة أو لتبرير حكم، بل بقيت الزوايا فضاءات مستقلة تتصل بالمجتمع غير تابعة للسلطة، وتؤدي وظيفتها الإصلاحية في توازن نادر على أسس الثلاثية الأصيلة الراسخة.

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

توكل كرمان.. من جائزة نوبل إلى خطاب الفتنة

عمر العمري تقدم توكل كرمان نفسها، منذ حصولها على جائزة نوبل للسلام سنة 2011، بوصفها رمزا عالميا للحرية وحقوق الإنسان، إلا أن مسارها الإعلامي والسياسي اللاحق سرعان ما كشف عن تناقض صارخ بين الشعارات والممارسة. فبدل أن تكون صوتا للحوار والسلام، تحولت إلى منبر للتحريض والتجريح، مستخدمة المنصات الرقمية لنشر خطاب عدائي يستهدف المغرب ومؤسساته […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...