محمد علي لعموري
يقف العالم من أقصاه إلى أقصاه مشدوها أمام أول جائحة عالمية أعجزت الإنسان الذي بنى الحضارات وابتكر اللغات وصنع أمجادا تليدة ، وساهم بشكل فظيع في تطور العلم والوصول به إلى حافة تهديد النوع البشري فوق الأرض.
الإنسان المعاصر الذي يدعي القوة ويستعرض عضلاته الجسدية والعسكرية ينحني صاغرا أمام أصغر مادة لا ترى إلا بالمجهر المتطور ، لأنه لم يجد لحدود كتابة هذا المقال لقاحا أو دواءا يخلص البشرية من شر الفتك بها وحصد المزيد من الأرواح ، والتسبب في كوارث سوسيو-اقتصادية إذا استمر العالم يحترز منه ويشل أنشطته الإقتصادية التي هي عصب الحياة ويجهز بالتالي على روح الحركة والحرية والعيش المشترك.
الحجر الصحي وقاية استباقية لا غبار عليها لجأت إليها الدول للحد من استفحال الوضع ، لكن إلى متى ؟ وما هي تبعات كل ذلك على المدى المتوسط بعد دحر الخطر ؟ وكيف ستصبح علاقة الناس ببعضها البعض بعد أن تعودت على تعطيل السلام والقبل والعناق وكل الحميميات الظاهرة التي اعتاد الناس على القيام بها تعبيرا على الأخوة وعلى الصداقة وعلى الحب وعلى التبادل العاطفي والتعبير الأخلاقي عن احترامهم وتقديرهم لبعضهم البعض؟
توقف كل شيء فجأة بعد أن تسرب الذعر إلى نفوسهم ، وتغلب منطق الإحتراز بين الإنسان وشقيقه الإنسان ، وتباعد الأقارب وتنافر الجيران أكثر بعد أن كانوا أكثر قربا وأقل بعدا ، لبس الناس الواقي اليدوي والواقي التنفسي خوفا من انتقال العدوى بسرعة كما تروج لذلك نصائح الأطباء مع بعض التوابل التي تضفيها الصناعة الإعلامية الرقمية بعد توقف الصحافة الورقية ضمن باقي الخدمات التي كانت تنقل الخبر المتيقن منه حفاظا على المصداقية.
فترة الحجر بقدر ما هي وقائية ، بقدر ما هي تأملية ستدفع الناس لاشتهاء الحرية التي كانوا يتأففون منها لأنها لم تكن بالنسبة لهم كافية ! وسيتمنى الكثير من الناس لو أنهم عادوا لمباشرة حياتهم اليومية بشكل عادي بعد أن حرموا الخروج والتجوال والمشي والجري وملاقاة الأهل والأصدقاء والسفر وحلق شعر الرأس وشرب القهوة في مقهى والذهاب إلى الحمام والدخول إلى الحانات والصلاة في المساجد والتريض في القاعات وفي الحدائق والعمل بشكل طبيعي كل في مجاله…الخ
الإنسان المحجور عليه في بيته سيشعر بشيء من التعاطف مع السجناء مهما كانوا مذنبين ، والمرضى طريحي الفراش الذين يلازمون البيت صباح مساء ، وسيدرك أن الصحة التي لا يقدر نعمتها ويلقي بها ؛ بدون مسؤولية منه ؛ في براثين الإدمان والسلوك المدمر لها رويدا رويدا ، وأن الحرية التي يستغلها في العبث والتفاهة والإسفاف ، والوقت الذي يقتل ساعاته دون أن يتعلم شيئا يقوي مناعته الفكرية والأدبية ويضعه في خضم الإسهام في بناء حياته وبناء وطنه ، كلها نعم وجب عليه تثمينها من اليوم فصاعدا لعله يترك العادة التافهة ويعتنق الحياة المسؤولية النافعة التي تصنع منه فردا مؤثرا وفاعلا داخل الجماعة ، ومواطنا مسؤولا لا مدعيا يتشدق بالحق دون القيام بالواجب ، وشخصا متواضعا أمام ملكوت الكون الفسيح الذي لا نهاية له ، وأمام جمال الطبيعة التي يسيء لها كل يوم بأنانيته ، وأمام القدرة الماورائية التي يصعب مضاهاتها لأنها غير مكشوفة للعيان كما هذا الفيروس الذي يحلو لبعض المتمسحين بالدين أن يعتبروه ” جندا من جنود الله ” ! ويزيد على ذلك البعض الآخر على أنه عقاب إلهي جاء ليعاقب العالم بسبب المعاصي والذنوب والحروب وانتهاك حرمة القدس من طرف الصهاينة وحرمة البيت الحرام من طرف آل سعود…وهلم تأويلات ميتافيزيقية.
لست من المروجين لمقولات هؤلاء المتكلمين الجدد ، لتمسكي الشديد بقناعة أن الأوبئة جزء من الحرب التي تعلنها التهورات البشرية سواء عن قصد أو بدونه لتضع ضمير العلماء على المحك وتسائل قصدية العلم في البناء لا في التدمير ، في تجويد الحياة لا تقريب الموت البشع من البشر ، في التقدم لا في صنع الإفلاس الإنساني بسبب الجشع والطمع وتغول القوى واستئسادها ضد القوى الصغرى ، واستعلاء الأغنياء واستعبادهم للفقراء ، واستقواء أصحاب الرساميل وزعماء الرأسمالية بنفوذهم الإقتصادي والسياسي على الطبقة العاملة والأجراء واليد العاملة الرخيصة…
العالم بعد هذه الجائحة سيضع أولوياته الجديدة بعد انتصار العلم على العجز الحالي الذي حطم عجرفة الإنسان وعلمه كيف ينحني تواضعا أمام فيروس غير مرئي وهو الذي كان لا ينحني تواضعا أمام نسبية قدرته والإعتراف بحدود القوة التي يتمتع بها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7796