21 أغسطس 2025 / 19:36

الواقع المعاش تحت المجهر الأنثروبولوجي

لمياء الشاوي

الواقع المعاش تحت المجهر الانثروبولوجي: مناهج تفسير ممارسات الحياة اليومية في المجتمعات الإنسانية

– الملخص: توفر المناهج الانثروبولوجية إطاراً متكاملاً لفهم المجتمعات الإنسانية عبر الزمان والمكان. بناءً عليه يهدف المقال إلى إبراز أهمية الانثروبولوجيا كعلم حيوي ضمن منظومة العلوم الاجتماعية والإنسانية، من خلال تحليل موقعها المعرفي ومناهجها التفسيرية التي تميزها عن غيرها من التخصصات. وقد تناول المقال دور الانثروبولوجيا في فهم الإنسان ككائن بيولوجي وثقافي في آنٍ واحد، واستعرض كيف أسهمت مناهجها (كالمنهج الإثنوغرافي، والمقارن، والتاريخي، والاثنوميثودولوجي) في تحليل الظواهر الاجتماعية والثقافية بعمق وشمولية. كما ناقش التفاعل بين الانثروبولوجيا والعلوم الأخرى، مما وسع من قدرتها التفسيرية في التعامل مع قضايا معقدة كالعولمة، والهوية، والنزاعات الثقافية. وقد خلص المقال إلى أن الانثروبولوجيا، بفضل رؤيتها الشمولية ومناهجها الميدانية الدقيقة، تشكل أداة علمية فاعلة في تفسير تحولات الواقع الإنساني البدائي والمعاصر، وتوفير معرفة معمقة تسهم في تطوير السياسات الاجتماعية والثقافية.

المقدمة:
تُعد الانثروبولوجيا علماً ميدانياً يمزج بين المناهج النظرية والأدوات التطبيقية لفك شفرة الحياة الإنسانية بجميع أبعادها. وتبرز أهمية هذه المناهج حينما نسعى إلى الانتقال من النظرة السطحية للثقافة بوصفها ” مجرد عادات ” إلى فهمها نظاماً ديناميكياً ينبض بالمعاني والتفاعلات. يتيح المنهج الانثروبولوجي (العام) إدراك الترابط بين الإنسان وبيئته ووظائفه الاجتماعية، بينما تخدم الإثنوغرافيا الملاحظة بالمشاركة والمقابلات العميقة لتسجيل ” الانطباعات الحية ” من وجهة نظر السكان أنفسهم. أما الاثنوميثودولوجي، فقد أضاف بعداً جديداً من خلال تحليل المحادثة وكشف القواعد اليومية غير المعلنة التي تبني الواقع الاجتماعي. ومن خلال المنهج المقارن، نستخلص نظريات متوسطة المدى حول السلوك الإنساني عبر مقارنة نظم الزواج والعبور الطقسي وعادات الدفن بين ثقافات مختلفة. ولا يغيب عن الصورة تحليل الرموز والطقوس وفق مناهج التأويل والفهم والبنيوي الوظيفي، حيث نرى كيف تنتج الطقوس الأمان الاجتماعي وكيف تعيد ترسيخ الهيكل الاجتماعي، فيما يُمكن للمنهج التاريخي الخاص أن يعيد بناء مسار تطور المجتمعات بدءاً من أصولها وحتى حاضرها.

– حول أهمية الانثروبولوجيا: تعتبر الانثروبولوجيا علماً حيوياً محورياً في العلوم الاجتماعية والإنسانية، لأنها تدمج بين المنظور البيولوجي والبُعد الثقافي لفهم الطبيعة البشرية بعمق وشمولية. فالانثروبولوجيا البيولوجية (Physical or Biological Anthropology) تُعنى بأصول الإنسان وتطوره وأسس سلوكياته الحيوية، من خلال دراسة الهياكل العظمية والجينوم البشري وعلاقتهما بالتصرفات الاجتماعية. وتبرز أهمية هذا التخصص في تقديم رؤى حول التكيّف البشري مع البيئات المتجددة والتغيرات المناخية والاجتماعية، مستعيناً بمنهج السياق البيولوجي– الثقافي (Biocultural Perspective) الذي يجمع بين البيانات البيولوجية والتحليلات الإثنوغرافية لتفسير أنماط الحياة البشرية. كما تُسهم الانثروبولوجيا في إثراء النظريات الاجتماعية عبر استخدام أدلة من الحفريات العظمية والأسلاف الأحفوريين لإعادة بناء مسارات الهجرة والتفاعل بين الشعوب عبر العصور. ومن الناحية المنهجية، تحفز حقول مثل علم الإنسان الطبي (Medical Anthropology) وعلم الأحياء الاركيولوجي (Bioarcheology) الدراسات متعددة التخصصات التي تربط بين الصحة والطب والأنماط الثقافية للمجتمعات، ما يدعم صياغة سياسات صحية واجتماعية مبنية على فهم أعمق للتنوع الجيني والثقافي. علاوة على ذلك، يتيح المنهج الإثنوغرافي تحليل أوجه التفاعل اليومي بين الناس وبيئاتهم الحضرية والريفية، مستفيداً من خبرات الملاحظة بالمشاركة والمقابلات العميقة لتسليط الضوء على الأسس البيولوجية للثقافة والتكيف الاجتماعي. ويعد التقاطع بين العلوم الإنسانية والانثروبولوجيا عاملاً رئيسياً في تعزيز مقاربات مثل علم البيئة الثقافي (Ethnoecology) وعلوم الإنسان التطورية، ما يرسخ مكانة الانثروبولوجيا ” علماً حيوياً ” لا غنى عنه لفهم التعقيد البشري، وتفسير الانحرافات والتنوع في السلوكيات والمعتقدات عبر الزمن والمكان. بناءً على ما سبق سنحاول استعراض مناهج الاثنروبولوجيا لفهم تعقيد حياة الإنسانية ومن أهم هذه المناهج ما يلي:

– المنهج الانثروبولوجي (العام): ينطلق هذا المنهج من فكرة تكامل الأبعاد البيولوجية والثقافية والاجتماعية والبيئية للإنسان، بحيث لا يمكن فهم أي بُعد بمعزل عن الآخر. ويستخدم الباحثون فيه أدوات مثل الملاحظة بالمشاركة لجمع رؤى شاملة عن الحياة اليومية، والمقابلات شبه المنظمة لفهم التصورات الذاتية، وجمع الوثائق الأثرية والرمزية لتوضيح الروابط بين مكونات الثقافة. وفي التطبيق اليومي، يساعد هذا المنهج الشمولي في دراسة كيفية تفاعل الأفراد مع بيئاتهم الحضرية أو الريفية، مثل فهم طقوس السوق الشعبي وظروف العمل المنزلية ضمن شبكة علاقات اجتماعية متشابكة .

– المنهج الإثنوغرافي: تُعرف الإثنوغرافيا بأنها ” دراسة منهجية لثقافة محددة من وجهة نظر السكان أنفسهم “. يرتكز على الملاحظة بالمشاركة والمقابلات المعمقة لجمع سرديات تفصيلية عن الممارسات اليومية، مثل الطقوس الدينية والعادات الغذائية والأساطير الشعبية، عبر تسجيل يوميات وأحاديث وإعداد مذكرات ميدانية. ويطبق هذا المنهج لتحليل كيفية تنظيم العائلات في المجتمعات الريفية وتفكيك أدوار الجنسين والطبقات الاجتماعية في الحياة الحضرية المعاصرة .

– المنهج الانثوميثودولوجي (منهجية الحياة اليومية): هو اتجاه سوسيولوجي نوعي نشأ في ستينيات القرن العشرين على يد هارولد جارفينكل Harold Garfinkel، ويهدف إلى دراسة الأساليب اليومية التي يستخدمها الأفراد لفهم الواقع الاجتماعي وتنظيم تفاعلاتهم. لا يفترض هذا المنهج وجود بنية اجتماعية ” خارجة ” أو سابقة للفعل، بل ينطلق من أن الأفراد أنفسهم هم من ينتجون المعنى والنظام من خلال تفاعلاتهم العادية.

يقوم المنهج على مجموعة من المرتكزات الأساسية، حيث لا يدرس المجتمع كبنية كلية، بل كمنتَج يومي مستمر يصنعه الأفراد في كل لحظة. ويهتم بكشف ” الطرق الضمنية ” و” البديهيات الثقافية ” التي يستخدمها الناس، والتي تُعد غير مرئية عادة. كما أنه يعتمد على تحليل المحادثة Conversation Analysis بوصفها أداة رئيسية لفهم كيف تُبنى المعاني خلال التفاعل. ويرفض الفصل التقليدي بين الذات والنسق، فالمعنى يُنتج من داخل التفاعل وليس خارجه. من أهم أدواته الأساسية الملاحظة الدقيقة للتفاعلات اليومية، وتسجيل المحادثات الطبيعية وتحليلها تفصيلياً. وتقنيات خرق التوقعات Breaching Experiments التي ابتكرها جارفينكل لاختبار القواعد غير المعلنة التي تنظم الحياة اليومية.

فالهدف النهائي من توظيف هذه المنهج حسب رواده ليس تفسير الظواهر الاجتماعية من الخارج، بل فهم منطق الفاعلين أنفسهم والطريقة التي يصنعون بها الواقع الاجتماعي محلياً ولحظياً، وهو بذلك يتقاطع مع الاتجاهات التأويلية ولكنه أكثر راديكالية في التمسك بوجهة نظر الفاعل.

– المنهج المقارن: يعتبر المنهج المقارن من أقدم المناهج في الانثروبولوجيا، وقد تطور منذ بداياتها في القرن التاسع عشر مع أعمال إدوارد تايلور ولويس هنري مورغان، ثم أصبح أكثر دقة مع تطور الإثنوغرافيا الحديثة.

يُستخدم هذا المنهج لاختبار الفرضيات الانثروبولوجية، من خلال التحقق مما إذا كانت ظاهرة معينة مرتبطة بعوامل أخرى (البيئة، الاقتصاد، القرابة… إلخ) من خلال الوصف الدقيق للثقافات، ومن ثم مقارنتها وفق وحدات تحليلية قابلة للقياس النوعي أو الكمي.

يعتمد المنهج المقارن على مجموعة من الأدوات والوسائل البحثية التي تسهم في إجراء مقارنة علمية دقيقة بين الثقافات والمجتمعات. وتستخدم هذه الأدوات لضمان الاتساق في المقارنة، وتجنب التحيزات الثقافية، ودعم صلاحية الاستنتاجات الانثروبولوجية. ومن أبرز هذه الأدوات:

أ- الوصف الإثنوغرافي الميداني الدقيق: تُعد الإثنوغرافيا حجر الأساس لأي مقارنة ثقافية، إذ لا يمكن إجراء مقارنة علمية دون توثيق مفصل للأنظمة الثقافية والمعيشية. كما يقوم الباحث بجمع المعطيات من خلال المعايشة والملاحظة المباشرة والمقابلات.
ب- التصنيف الثقافي للظواهر: تُستخدم لتقسيم الظواهر الاجتماعية والثقافية (مثل الزواج، أنظمة القرابة، الطقوس…) إلى فئات قابلة للمقارنة. وتُتيح هذه التصنيفات ضبط وحدة التحليل بين المجتمعات المختلفة.
ج- التحليل البنيوي – الوظيفي: يُستخدم لفهم العلاقة بين الظواهر المختلفة داخل المجتمع ومقارنة هذه العلاقات بين مجتمعات متعددة. مثل مقارنة وظيفة الطقوس الدينية أو العائلية في ضبط السلوك الاجتماعي.
د- السجل التاريخي والتحليل الزمني: ويُستخدم لرصد تطور الظواهر عبر الزمن في أكثر من سياق جغرافي وثقافي، ما يتيح مقارنة طولية diachronic comparisonوهي أسلوب في البحث الانثروبولوجي يقارن الظواهر الثقافية أو الاجتماعية عبر الزمن داخل نفس المجتمع أو ثقافة معينة، بهدف تتبع تطورها وتحولاتها التاريخية. مثال: دراسة تطور نظم الزواج في مجتمع قبلي من الشكل التقليدي (مثل تعدد الزوجات) إلى الشكل المدني الحديث.
هـ- التقاطع الثقافي: هو منهج مقارن يرتكز على مقارنةٍ منظمةٍ بين مجتمعين أو أكثر لاستخلاص أنماط مشتركة أو تباين واضح في مكونات ثقافية محددة، دون الاعتماد على الأساليب الإحصائية. ويتم تحديد وحدة المقارنة أي اختيار ظاهرة محددة (نظام القرابة، تقاليد العزاء، أدوار الجنسين، أنواع الطقوس)، والتركيز عليها ” كوحدة تحليل ” يمكن تتبعها في أكثر من ثقافة. ثم يتم اختيار مجتمعات المقارنة أي انتقاء حالتين أو ثلاث حالات تعكس تنوعاً مناسباً مثل التصميم الأكثر تشابهاً (Most Similar Systems Design) مقارنة مجتمعات تشترك في بيئة أو اقتصاد لكنها تختلف في مكون ثقافي محدد. أو التصميم الأكثر اختلافاً (Most Different Systems Design) مقارنة مجتمعات تختلف في البيئة والاقتصاد لكنها تشترك في المكون الثقافي ذاته. بعدها تتم عملية جمع البيانات الإثنوغرافية استناداً إلى الملاحظة بالمشاركة والمقابلات ومذكرات الميدان المنشورة، يجمع الباحث وصفاً تفصيلياً لكل حالة، مع التركيز على سياق ظهور الظاهرة وطبيعة ممارسة الأفراد لها.

وفي المقارنة الوصفية المنسقة يتم وضع ملخص قصير لكل مجتمع يستعرض كيفية تنظيم الظاهرة (من حيث الأدوار، الرموز، المسؤوليات). أي إبراز التشابهات (ما يجمع بينهما) والاختلافات (ما يميزهما) في إطار جدول أو نص مقارن. ثم القيام بعملية التحليل التفسيري أي تفسير الفروقات المشتركة في ضوء العوامل البيئية، الاقتصادية، والاجتماعية لكل حالة. وربط الأنماط المكتشفة بنظريات انثروبولوجية (الوظائفية، التأويلية، البنيوية).

ومن الأمثلة التطبيقية في التقاطع الثقافي نظام الزواج، حيث يسعى باحثون إلى المقارنة بين نظام الزواج الأحادي في قبائل الزولو بجنوب إفريقيا (بيئة رطبة وزراعية) ونظام تعدد الزوجات في قبائل السواحلي بشرق إفريقيا (بيئة رعوية)، فوجدوا أن تعدد الزوجات يخدم توزيع الأعباء الاقتصادية في البيئات الرعوية، بينما الأحادي يرتبط بتراكم الأرض. أو طقوس الانتقال مقارنة بين طقوس بلوغ الرشد لدى شعب الماساي في كينيا (طقوس تعتمد على التضحية بالحيوان) وجماعات الأمازون في البرازيل (طقوس تعتمد على الرقص والصيام)، مستنتجين أن مكونات الطقوس تتشكل بتأثير التغيرات البيئية ومستوى التكافل الاجتماعي. أو فيما يتعلق بأدوار الجنسين، حيث استنتجت الدراسة من خلال مقارنة بين تقسيم العمل بين الرجال والنساء في (كونغ سان: الحياة التقليدية) بصحراء كالاهاري في منطقة إفريقيا الجنوبية (الجمع والصيد المشترك) ومجتمعات صيد الأسماك في جزر تروبرياند قبالة الساحل الشرقي من غينيا الجديدة. (الرجال يصطادون والنساء يجمعن المحاصيل البحرية)، كاشفة أن وفرة أو ندرة الموارد تُعيد تشكيل الحدود الجندرية.

خلاصة القول، يعتبر المنهج المقارن أداة مركزية في تأسيس النظريات المتوسطة في الانثروبولوجيا، حيث يُساهم في تفكيك التصورات المركزية الأثنية أي الحكم المسبق الذي لا يحكم قيمياً على ثقافة أخرى إلا انطلاقا من ثقافته الخاصة ليتم إبراز أنماط إنسانية متكررة، مما يعزز فهمنا لخصوصيات الثقافات من خلال المقارنة الدقيقة بدل التعميم السطحي.

– أمثلة تطبيقية في المنهج المقارن تشتمل على المواضيع التالية: مقارنة نظم القرابة حيث استخدم كل من كلود ليفي-شتراوس ومورغان هذا المنهج لمقارنة نظم القرابة والزواج في المجتمعات الأسترالية والإفريقية والأمريكية الأصلية، واستنتجوا أن هناك نماذج متكررة مثل الزواج التبادلي والممنوعات القرابية. وعادات الدفن والرموز الجنائزية من خلالها قارنت دراسة لـ Robert Hertz طقوس الدفن في مجتمعات ميلانيزية (مجموعة عرقية تمثل مجمل ساكنة منطقة ميلانيزيا، في منطقة واسعة من غينيا الجديدة) وأوروبية لفهم تمثلات الموت والعبور الاجتماعي، مشيرة إلى أن ” الموت ” هو حدث اجتماعي منظم يعاد من خلاله ترتيب النظام الرمزي. وأخيراً طقوس العبور (دورة الحياة) حيث استخدم فيه فيكتور تيرنر المنهج المقارن لتحليل مراحل الطقوس في مجتمعات إفريقيا جنوب الصحراء لقبائل الـ ” الندمبو Ndembu tribes ” في شمال زامبيا، ومن أهم تلك الطقوس البلوغ الذكوري، الزواج الجماعية، طقوس الجنائز والتطهير لما لها أهم كبرى في الحياة الاجتماعية والاقتصادية لدى تلك القبائل.

وفيما يتعلق بالمقارنة في التعامل مع الطبيعة قارنت دراسات حديثة بين مجتمعات الأمازون وشعوب الإينويت في القطب الشمالي، في كيفية تأقلمهم مع البيئة، مبرزة تنوع النماذج المعرفية البيئية (Ethnoecology). ومقارنة الأديان الشعبية، حيث قارنت Marilyn Strathern بين الرموز الدينية في بابوا غينيا الجديدة وتلك في المسيحية الريفية الأوروبية، مظهرة كيف تُنتج المجتمعات معاني دينية انطلاقاً من نظمها القرابية والاقتصادية.

– التأويل والفهم: ينظر إلى الثقافة كسياق من الرموز والمعاني يحياها الأفراد ويعيدون إنتاجها، ويعتمد على مفهوم الوصف العميق (Thick Description) لكليفورد غيرتز Clifford Geertz. يستخدم الباحث تحليل الخطاب والرموز والطقوس لتفسير كيف يكوّن الناس معانيهم، مثل دراسة احتفالات ” عيد الفطر ” لدى المسلمين لفهم قيم التراحم والهوية الجماعية. وفي التطبيق اليومي، تبيّن هذه المقاربة كيف تعبر وسائل التواصل الاجتماعي عن رموز المحبة والانتماء بين شبكات الصداقة الحضرية .

– المنهج البنائي الوظيفي: يركز على تحليل كيفية مساهمة المؤسسات الاجتماعية (العائلة، الدين، الاقتصاد) في استقرار البناء الاجتماعي ووظائفه، حيث يجمع بين تحليل البنى (أنماط العلاقات) ووظائفها الاجتماعية، مثل دراسة دور طقوس الزواج في تقوية الروابط القبلية وضمان انتقال الممتلكات. ويمكن تطبيقه على الحياة اليومية من خلال تحليل كيف يساهم التعليم الرسمي في نقل القيم الاجتماعية وإعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية في المجتمعات الحضرية.

– المنهج التاريخي: يؤكد هذا المنهج على التفرد التاريخي لكل ثقافة ويعيد بناء تطور المؤسسات والعادات عبر تتبع المصادر التاريخية والوثائق والشهادات الشفوية. ويستخدم تحليل الأرشيف ومستندات الاستعمار ومخطوطات الرحالة لتتبع تطور طقوس الزراعة والاحتفال في مجتمع معين، مثل إعادة بناء تاريخ مهرجان القصب في مصر. وفي التطبيق اليومي، يساعد على فهم أصل العادات الشعبية مثل الاحتفاء بعيد الحناء في المغرب وتطورها عبر العصور الإسلامية والأندلسية على سبيل المثال .

– أهمية المناهج الانثروبولوجية في دراسة الشعوب والحضارات الإنسانية: تظهر مناهج الانثروبولوجيا التنوع المنهجي والعمق التحليلي الضروريين لفهم الشعوب والحضارات الإنسانية على امتداد التاريخ والجغرافيا. فالمناهج الشمولي والإثنوغرافي تتيحان الانغماس في الحياة اليومية للمجتمعات البدائية والمعاصرة على حد سواء، مما يكشف “المعقوليات” و “الروتين الثقافي” الذي يشكل سلوك الأفراد والجماعات.

ويكشف الاثنوميثودولوجي الأطر البديهية التي يستند إليها البشر في إنتاج النظام الاجتماعي عبر تحليل المحادثة والقواعد الضمنية للممارسات اليومية. أما المنهج المقارن فيبرز التشابه والاختلاف بين الظواهر الثقافية بوصفه أداةً لاستنباط نظريات متوسطة المدى عن السلوك الإنساني.

وتسهم مناهج التأويل والفهم والبنيوي الوظيفي في تفسير الرموز والطقوس كعناصر أساسية للحفاظ على التماسك الاجتماعي واستمراره عبر الأجيال. وفي المقابل، يعيد المنهج التاريخي بناء الماضي وتحليله وتفسيره بغية فهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل.

خلاصة القول، تتمظهر مكانة الانثروبولوجيا كعلم حيوي في قدرتها على دمج الأبعاد البيولوجية والثقافية والاجتماعية والبيئية ضمن إطار منهجي واحد يوفر فهماً شاملاً للسلوك الإنساني بعمقٍ وتنوعٍ غير مسبوقين. ومن خلال المنهج رباعي الحقول الذي أرساه فرانس بواس- متمثلاً في التخصصات الأربعة: الانثروبولوجيا البيولوجية، والآثار، والانثروبولوجيا اللغوية، والثقافية – تثبت الانثروبولوجيا ضرورتها في تناول الإنسان ككلٍ لا أجزاء متفرقة. وترتكز هذه الشمولية على الملاحظة الميدانية المتعمقة والأسلوب العلمي في الجمع والتحليل، ما يجعل الإثنوغرافيا حجر الأساس في بناء المعرفة الانثروبولوجية. وتكمن قوة المنهج الانثروبولوجي أيضاً في تفاعله مع القضايا المعاصرة كالصحة العالمية والتنمية المستدامة من خلال مقاربته القائمة على السياق والعمق الثقافي، مما يدعم صياغة سياسات فعّالة مبنية على فهم حقيقي للاحتياجات الإنسانية. كما يظهر التطور الحديث للمنهجيات الرقمية (الإثنوغرافيا الرقمية وتحليلات الشبكات الاجتماعية) قدرة الانثروبولوجيا على مجاراة التحولات التقنية والاجتماعية في العصر الرقمي، مع الحفاظ على البُعد الشمولي الذي يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.