الهوية بين العلمانية والعولمة؟ (2)

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس27 سبتمبر 2022آخر تحديث : الثلاثاء 27 سبتمبر 2022 - 9:04 صباحًا
الهوية بين العلمانية والعولمة؟ (2)

الدكتور محمد وراضي
حاولنا في الحلقة الأولى تحديد مفهوم “الهوية”. وعلينا أن نحدد الآن مفهوم “العلمانية” فنقول: إنها باختصار شديد قديمة قدم البشرية، ونعني بها الاحتكام إلى غير شرع الله المنزل على أحد رسله، إنها نتيجة منطقية لغياب هذا الاحتكام بكل تأكيد، وبدون ما ريب، وبدون ما مقدمات مخزية عرفها الغرب الأوربي لقرون طوال، وعنها أسفر إزهاق ملايين النفوس. فالعلمانية الحديثة إذن مولود للنهضة الأوربية. أما “العولمة” فوضع مفروض على كافة دول العالم كمبادئ كونية لا مفر من الخضوع لها تحت القسر والقهر الشديدين، وذلك بعد حين من مصادرة الأولى لهويات كل الدول والشعوب والأمم الإسلامية على وجه الخصوص، والتي تتجلى في استبعاد الأحكام الشرعية العملية؟ فصح أن الثانية تولت مصادرة ما تبقى من هويات الثالوث المتقدم. هذا إن بقي لها بعض منها؟ حتى وإن تعلق الأمر بكيفيات الزواج والطبخ وتقديم الطعام واللباس؟

وإن دخلنا في بعض التفاصيل، فلا بد من استحضار عراك تاريخي مؤلم بين الكنائس الأوربية وبين التواقين للحرية، تمثلوا في الشعب، أو تمثلوا في المثقفين منه، فالبابوية ورجالها، مشخصة في الكنائس والأديرة، كانت تحرم بطغيانها كل متطلع إلى التحرر، بحكم ادعائها امتلاك الحق الإلهي، كممثل له على الأرض. غير أن الحق الإلهي الذي تدعي ملكيته وتمثيله، وفي الوقت ذاته حمايته والدفاع عنه، لا تملك لما تدعيه أي تفويض من أية جهة، فما تدعيه إذن مجرد تضليل وافتراء، على اعتبار أن مصدره هو الإنجيل.

هذا الكتاب الرباني الذي تزعم أنها الوحيدة التي تدرك كافة مدلولاته. لكن رواد النهضة يكذبونها بعقلانية منطقية، ويدعون غير ما تدعيه. حيث إنهم ذهبوا إلى أن وقائع من الإنجيل لا تحمل حظها من الاحتمال العقلي الكامل. وهذا ما أكده قبلهم الشهرستاني في “الملل والمحل”، وهو نفسه ما عبرعنه الدعاة إلى التخلص منه في صوره النسبية المبتدعة بكل تأكيد؟ إنما لماذا؟ لأن الأناجيل كلها ليست متكاملة فيما بينها “بل تتناقض وتتعارض” على حد قول فولتير.

وبناء على ما تقدم، أخذت كل من الكنيسة والآباء المقدسين على عاتقهم – وهم يدعون ما ادعوه – أن يجعلوا الديانة المسيحية أقل تماسكا. فهم الذين يدعوننا إلى الإيمان بالثالوث الأقدس “الأمر الذي يشكل سانحة لمجادلات دامية”. بحيث إن كافة الأطراف – لدى كل مدع للقداسة وباجتهاد منه – حرفت الإنجيل الذي يحمل من الخرافات ما نسبوه إليه.

مما يعني أنه لا توجد كلمة واحدة عن ماهية الثالوث المذكور “لا في التوراة ولا في الإنجيل” قبل تعرضهما للتحريف. إنما تبحثه مؤلفات الأفلاطونيين الحديثين: “فهم الذين يعرضون الإيمان على أنه المبدأ الذي أملاه الحواريون. لكن هذا الزعم لم يدون إلا في عهد جيروم؟ أي بعد انقضاء أربعمائة سنة على وفاة يسوع المسيح؟ وهم الذين يؤكدون عصمة المجامع المقدسة.

وهذه المجامع المقدسة والتي هي على غير وفاق، هي التي أشرفت على ابتداع مسيحية ليس لها أية علاقة بالدين الذي أمر عيسى من ربه بحمله إلى البشرية جمعاء. مما جعل من خزعبلاتهم أسبابا مباشرة للحملات العقلانية التي نظمها ضدهم رواد الثورة الفكرية، أو رواد “النهضة الأوربية”.

وكتوضيح لضرورة فصل الدين المسيحي المزيف بالذات عن التدبير العقلاني للشؤون العامة، نسوق حججا منطقية موجهة من فولتير ضد الكنيسة. فهذه تصرح بأن الأفكار التي جاء يسوع المسيح مبشرا بها على الأرض أمانة في عنقها، وتتطلب لهذا السبب، أن يقر كل فرد بسلطانها ويمتثل لوصاياها. لا شيء أكذب من هذا الزعم، فليس من علاقة أبدا بين مبادئ يسوع ومبادئ الكنيسة “أمسكوا الإنجيل بيد وهذه المبادئ باليد الأخرى، وانظروا، هل من مبدأ من هذه المبادئ في الإنجيل، ثم احكموا، هل المسيحيون الذين يعبدون المسيح هم على دين المسيح”؟ إنها موضوعة يفصلها فولتير مستقصيا الكلمة الجارحة والسخرية الذابحة “فالمسيح لم يقل قط في الأناجيل: لقد جئت وسأموت كي أجتث المعصية الأصلية (معصية آدم وحواء).

إن أمي بتول، وأن جوهري وجوهر الله واحد. ونحن ثلاثة أقانيم في الله، وأن لي طبيعتين وإرادتين، ولست إلا شخصا واحدا، لست أبا ولكني والأب شيء واحد. فأنا هو ولست هو. وسيصدر ثالث الثلاثة عن الأب فيما يعتقد اليونانيون، وعن الأب والابن فيما يعتقد اللاتينيون. كل الكون صائر إلى الهلاك الأبدي، وأمي معه، ولكن أمي أم الله؟؟؟ آمركم أن تضعوا بالنطق في كسرة خبز صغيرة جسمي كله، شعري، أظافري، لحيتي، بولي، دمي. وأن تضعوا في ذات الوقت دمي على حدة في كأس نبيد”. إن المسيح لم يقل شيئا من ذلك كله، ليس هذا فحسب، بل إنه لم يفكر قط فيه، ولو قيض له أن يرجع بيننا فكم سيكون غضبه شديدا وكم ستكون دهشته عظيمة”.

ونفس ما استنكره فولتير ورد قبله في الذكر الحكيم، حيث خاطب الله سبحانه سيدنا عيسى بقوله: “ءآنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد”.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.