22 أكتوبر 2025 / 15:27

المغرب والإسناد النبوي: نهضة علمية تربط بين الماضي والحاضر

د. صلاح الدين المراكشي

 

يشكل علم الإسناد في الحديث النبوي الشريف ركيزة أساسية لحفظ الدين الإسلامي، إذ انتقل إلينا جيلًا بعد جيل بخيوط متينة من الثقة والتحرّي والتثبت. وقد أولى العلماء، قديمًا وحديثًا، هذا العلم عناية فائقة، حتى أصبح منهجًا رصينًا في الرواية والنقد. وتجلى هذا الاهتمام بشكل جلي لدى المغاربة وسلاطينهم، الذين كانوا يسهرون على جمع الروايات الموثقة ونقلها للأجيال، لضمان بقاء الدين محفوظًا، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم صافية ومتواصلة عبر السند الشريف.

نشأ الاهتمام بعلم الإسناد منذ عهد الصحابة الكرام رضي الله عنهم، إذ أدركوا أن حفظ الدين لا يتحقق إلا بالدقة في الرواية، والأمانة في النقل، ومن هنا وُلدت بذرة التحقق والتثبت في نقل الحديث.

على الرغم من أنهم كانوا يتلقّون العلم مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض المواقف — كقصة أبي بكر الصديق في ميراث الجدة، وقصة عمر بن الخطاب في حديث الاستئذان ثلاث مرات — تُظهر مدى حرصهم على التثبت والاحتياط في قبول الروايات ممن نقلها إليهم.

وتشكل هذه الممارسات النواة الأولى للمنهج العلمي في علم الإسناد، الذي تطور لاحقًا ليصبح علمًا مستقلًا يهتم بضبط الرواية والتحقق من الرواة.

ومع مرور الزمن وظهور الفتن، خاصة بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 35هـ، واشتداد الاختلافات الفكرية والسياسية وظهور أهل البدع والأهواء، ظهرت الحاجة الملحة للتثبت من صحة الروايات والتأكد من راويها، حرصًا على صون سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومنع تسرب الكذب والوضع في أحاديثه الشريفة.

ومن هنا تميّزت الأمة الإسلامية بميزةٍ فريدةٍ انفردت بها عن سائر الأمم، ” الإسناد ” ، الذي شكّل الركيزة الأساس في حفظ الأحاديث النبوية وضمان صحة الرواية. فهو الأداة التي بها تمّ توثيق الأخبار، وتمييز الصادق من الكاذب، وكشف حال الرواة بدقة متناهية.

وقد عبّر عن هذه الحقيقة الإمام عبد الله بن المبارك بقوله: «لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»، مبيّنًا بذلك أن السند هو الحصن الذي صان الدين من التحريف والدسّ.

وبفضل الإسناد، ابتكر المحدثون قديمًا منهجًا دقيقًا وعلمًا مستقلاً يُعرف ” بعلم الرجال ” أو ” علم الجرح والتعديل ” حيث يدرس أحوال الرواة وسيرهم وأوطانهم، ويميز بين ضبطهم في أزمنة مختلفة، وبين اختلاف رواياتهم، كما يقارن بين تلاميذ الشيخ الواحد من حيث الحفظ، والإتقان، والدقة، ليضمن بذلك استمرارية نقل السنة النبوية إلى الأجيال اللاحقة بكل صدق وأمانة.

ومع رسوخ أسس هذا العلم وازدياد الحاجة إلى التعمق في مباحثه، ظهرت مؤلفات رائدة في علم الرجال تناولت مجالات متعددة، في معرفة الصحابة، وطبقات الرواة، وفي الجرح والتعديل، وكتب التراجم والتأريخ، وتمييز الأسماء والكنى والأنساب… وسيتم الإشارة في هذا المقال إلى بعضها، دون القدرة على استعراضها جميعًا لعدم اتساع المجال.

وقد استمر هذا الإنتاج العلمي عبر العصور حتى يومنا هذا، فتشكلت مكتبة ضخمة تُعدّ من أدق وأوسع ما أنتجه الفكر الإنساني في منهج النقد والتحقيق والتوثيق.

لقد كان للمغرب الشريف صولة عظيمة في الإسناد، فقد روى علماؤه وملوكه حديث أبي هريرة رضي الله عنه : «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل طلبًا للعلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة» في إشارة إلى حرص المغاربة على طلب العلم والرحلة إلى الإمام مالك، عالم المدينة، صاحب السند العالي الذي قال عنه الإمام البخاري : «أصح الأسانيد مالك، عن نافع، عن ابن عمر»، وهي السلسلة التي اشتهرت بلقب «سلسلة الذهب».

وانطلاقًا من هذا الارتباط الوثيق بعلم الإسناد وحرصهم على التلقي عن أعلام المشرق، حمل المغاربة وعلماء الغرب الإسلامي راية هذا العلم، فكان لهم السبق في الرواية والسماع.

وتشير المصادر إلى أنهم شدّوا الرحال إلى الحجاز ومصر والعراق طلبًا للعلم، لأخذ الروايات عن شيوخ المشرق بالأسانيد العالية، ثم عادوا إلى بلادهم حاملين تلك السلاسل المتصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم لينشروها في حلقاتهم ومدارسهم، فامتد أثر هذه الرحلات العلمية في ترسيخ منهج الإسناد بالمغرب.

ومن أوائل من حمل هذا الاهتمام في الغرب الإسلامي الإمام ابن عبد البر القرطبي (ت 463هـ) صاحب كتاب : ” الاستيعاب في معرفة الأصحاب ” و ” التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ” ، وهما من أمهات كتب الإسناد والتراجم التي حفظت روايات المغاربة وطرقهم المتصلة إلى الإمام مالك وأئمة الحديث.

وسار على نهجه القاضي عياض اليحصبي (ت 544هـ)، في كتابين مشهورين في الباب : ” ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك” ، الذي عُدّ موسوعة تراجم كبرى لأئمة المالكية في المغرب والأندلس والمشرق معاً. وكتابه الثاني: ” الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ” حيث تناول فيه قواعد الضبط والرواية، وبيّن شروط السماع وطرائق التحمل والأداء، فكان حلقة وصل بارزة في تطور منهج المغاربة في خدمة الحديث والإسناد.

كانت هذه المصنفات، إلى جانب كتب بعض المحدثين المعاصرين المغاربة مثل أحمد بن صديق الغماري، من أبرز الكتب التي درسناها خلال أيام الطلب بالمشرق في بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تخصص الحديث النبوي الشريف وعلومه. تناولنا فيها مناهج مؤلفيها ضمن مقررات العناية بمناهج المحدثين وأصول الرواية، تحت إشراف فضيلة الشيخ المُسنِد الدكتور إبراهيم نور سيف، مما عمّق صلتنا بتراث المحدثين المغاربة والمشارقة على حد سواء. وقد سبقتها سنوات الدراسة الجامعية في الدراسات الإسلامية بجامعة محمد الخامس بالرباط، التي أضافت بعدًا عمليًا ومعرفيًا مكملًا لمسارنا العلمي.

ولم يقف اهتمام علماء الغرب الإسلامي عند النقل والرواية فحسب، بل تطور إلى منهج نقدي متين في الحكم على الرواة وتمييز المرويات، فظهرت عندهم مؤلفات دقيقة في الطبقات والأنساب، والإجازات، مثل أعمال ابن بشكوال ت 578هـ الأندلسي؛ وابن فرحون المدني ت 799 هـ المغربي في : ” الديباج المُذَهب في معرفة أعيان علماء المَذهب ” …الخ.

ومن المظاهر اللافتة في المدرسة المغربية كذلك الحرص على الإجازة بالسماع والرواية، حيث كانت سلسلة الإسناد تعدّ شرفًا علميًا ومفتاحًا من مفاتيح القبول. وقد ظل هذا الاهتمام قائمًا حتى العصور المتأخرة، فحافظت المدارس والزوايا المغربية على تقاليد السماع والقراءة والإجازة، وخاصة في كتب الحديث كـصحيح البخاري والموطأ.

ولا تزال الجامعات العريقة في فاس ومراكش وتطوان تحتفظ بمخطوطات نادرة تحمل أسانيد العلماء المغاربة، مما يدل على عمق الجذور العلمية للإسناد في هذه البلاد، وحرصهم الدائم على حفظ السند وصيانة النقل، ليبقى المغاربة جزءًا أصيلاً من السلسلة الذهبية التي ربطت الأمة بنبيها صلى الله عليه وسلم.

لم يقتصر اهتمام المغاربة بعلم الإسناد على العلماء والفقهاء فحسب، بل شمل أيضًا سلاطين الدولة العلوية، بدءًا بالمولى الرشيد وأخيه المولى إسماعيل، مرورًا بالسلطان محمد بن عبد الله، والسلطان محمد بن عبد الرحمن المعروف بالمولى الرابع، وصولاً إلى السلطان الحسن الأول.

لقد جعل هؤلاء السلاطين خدمة العلم وحفظ السند الديني من أهم ركائز دولتهم، فاتخذوا الحديث منهجًا للتربية والحكم، وأحيوا مجالس السماع في فاس ومكناس، وشجعوا تبادل الإجازات بين علماء المشرق والمغرب.

كما أولوا اهتمامًا بالغًا بالإسناد المتصل، فقرأوا على العلماء ودوّنوا الأسانيد المغربية، وأسّسوا مجالس دائمة لتدارس كتب السنة، وأجازوا الطلبة المتميزين لنقل الأسانيد. ولم يقتصر دورهم على الدعم المادي والمعنوي، بل شاركوا شخصيًا في رواية الحديث، كما فعل السلطان الحسن الأول الذي حفظ أسماء أسانيد الموطأ وأجاز العلماء بنفسه، مما منح الإجازة قيمة علمية رفيعة. وهكذا جمع السلاطين بين السلطة والورع والعلم، ليصبح البلاط العلوي حصنًا للسند النبوي، مؤكدين استمرار النهج العلمي والديني عبر الأجيال.

وفي العصر الحديث، واصل الملوك العلويون هذا التقليد العلمي المتوارث، فظلّت قراءة صحيح البخاري في شهر رمضان عادة ملكية أصيلة يشرف عليها الملك شخصيًا بحضور كبار العلماء، في مشهد يجمع بين السلطان والعلم والورع، مؤكّدًا بذلك استمرار السند العلمي والروحي الذي ورثته الدولة العلوية جيلاً بعد جيل.

وهكذا، ورث الملوك العلويون حب العلم والارتباط بأهله، وأدركوا أن الإسناد يمثل شرف الأمة وعنوان أصالتها. ومن هذا المنطلق، كانوا من أكثر الحكام دعماً لحلقات الحديث، وتشجيعاً على الرواية والإجازة، كما أكرموا العلماء والمحدثين وعزّزوا مكانتهم.

وبفضل هذا الاهتمام المتواصل، أصبح الإسناد في المغرب رمزًا لوحدة الأمة واستمرار الرسالة، وعنوانًا لنهضة علمية جمعت بين السلطة والمعرفة، وبين إمارة المؤمنين والحديث النبوي الشريف.