المؤسسات الدينية: بين منزعي الاستقرار والحرية ومطلب الجهاد

دينبريس
دراسات وبحوث
دينبريس15 أكتوبر 2020آخر تحديث : الخميس 15 أكتوبر 2020 - 1:51 مساءً
المؤسسات الدينية: بين منزعي الاستقرار والحرية ومطلب الجهاد

بقلم: عبد الخالق بدري
تقديم عام:
مازالت الأحداث البركانية التي يعيشها المجتمع العربي تُرخي بظلالها على جل الحقول بالساحة العربية(1)، فما زالت الأسئلة التي انبجست في خضم هذه الأحداث مؤرقة للعقل السياسي العربي، وتستأثر بالنقاش حول مفاهيم الديمقراطية والمواطنة والمجتمع المدني وسؤال التمكين للشباب و طبيعة دور المثقف والمرأة، وتداخل السياسي والديني.. وغيرها من المفاهيم الكثيرة. والحقل الاقتصادي بدوره أصبح مرهونا بما تخلفه التحولات على العُملات المالية و العلاقات التجارية.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تميز الحقل الفكري والمعرفي أيضا بطرح العديد من الأسئلة وبروز نقاشات لدى النخبة المثقفة العربية، لاعتبار أن الأحداث كانت صادمة لطبيعة الشعارات المرفوعة (المتجاوزة لما كان مرفوع حينئذ ) وطبيعة الشرائح الحاملة لها ( فئة الشباب)، والقنوات غير التقليدية التي تمرر بها الشعارات والمطالب (الوسائط الإعلامية الاجتماعية الجديدة، ومؤسسات غير تقليدية التي يمثل الشباب نواتها الأساسي كتنسيقيات ولجان محلية للأحياء والمدن، والمظاهرات والاعتصامات).

وإلى جانب هذه الحقول المهمة التي تتفاعل مع التحولات السياسية والاجتماعية، أجد أن أهم حقل شهد بالغ التأثير والتأثر؛ الحقل الديني، بمؤسساته (الرسمية وغير الرسمية) وفاعليه (علماء، فقهاء، خطباء..) وخطابه (طبيعته ونوعيته) عبر الفتوى والفتوى المضادة، والخطاب الهوياتي الصدامي، والصراع المذهبي والطائفي.. وساهم في حالة الشحن والاستقطاب والتجييش سواء عبر مؤسسة المسجد أو عبر المنابر الإعلامية الدينية المتعددة، (القنوات والإذاعات والجرائد والمواقع الالكترونية، ووسائط التواصل الاجتماعي..).

وبالنظر قليلا للحقل الديني المتفاعل مع التحولات سواء بالسلب أو الإيجاب، يمكن القول أنه انبجست لنا ثلاث رؤى في نظري اعتبرها مهمة على مدركاتنا الجماعية العربية والإسلامية، لأنها براديغم جديد يحدد الوجهة ويحركها؛ ألا وهي:

الرؤية الأولى: منزع الاستقرار والأمن والسلم؛ خصوصا بعد التبعات السلبية للربيع العربي (اللاجئين، القتل، الاعتقالات، العجز الاقتصادي، الحرب الطائفية، انتشار السلاح، قانون العزل السياسي، الإقصاء الاجتماعي لفئات مجتمعية…) وهذا المنزع ظهر بقوة خلال أحداث مايسمى بالربيع العربي، وكان مضمونه يُستعان من طرف الأنظمة لاعتبار أنه يساندها في مقاربتها لمحاربة الاحتجاجات وحالة الإرجاف بالمجتمع، وهو منزع أصبح توجها عاما مسنود بمؤسسات تتبناه، ويمكن هنا ذكر منتدى تعزيز السلم(2) الذي ضم أغلب العلماء الذين يعتبرون منزع السلم والأمن أولى من المطالبة بالحرية والكرامة وهي الشعارات التي كانت عنوانا للربيع العربي، ويستشهدون بحالة الفوضى السائدة والنتائج السلبية للربيع العربي، وهذا المنتدى على سبيل المثال الذي يقوده الشيخ بن بيه(3)، جاء ليجر البساط من تحت الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وجاء ليكون منبرا لتوجه يرى أن منزع السلم أولوية في الأمة، لإنقاذها من براثن التشرذم والصراع، وجاء ليؤسس لتوجه مخالف، كانت من بين أنشطته المؤثرة والتي أبانت عن حجم الفارق بين علماء المسلمين من خلال مؤتمر الشيشان(4) الذي أقصى الإخوان المسلمين والسلفيين من أهل السنة والجماعة، ليكون سببا مباشرا في تنظيم مؤتمر الكويت الذي ضم في غالبه التوجه السلفي، وكان ردا على مخرجات وتوصيات مؤتمر الشيشان.

وقد ندرج في هذا المنزع كل من التيار الصوفي والتيار السلفي المدخلي، الذين برز صيتهما بقوة سواء في البيانات او المسيرات او القنوات..

الرؤية الثانية: مطلب الحرية؛ وهو المطلب الذي يمثل توجها وتيارا مجتمعيا يصبوا إلى الحرية ولا يقايضها بالاستقرار وأمن ملغوم كما يقول، وتقوده نخبة من العلماء المحسوبين على حركات الإسلام السياسي في غالبهم، أو المتعاطفين مع التيار السلفي العلمي، ويمثل هذا التوجه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهو ما يتجلى واضحا في خرجات علماء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وساهم علماء هذا التوجه بشكل كبير في أحداث الربيع العربي، وأصبحوا مرجعا علميا وفقهيا لمآلاته.

الرؤية الثالثة: الخيار الجهادي؛ أضفت هذه الرؤية للاستئناس وفقط، لأني أعتقد أن لا أهمية لها في بحثنا هذا، ذلك أن مآلها بعد التحولات الانحسار لاعتبارات عدة لن يسع المقام لذكرها، وهي رؤية التيار الجهادي سواء الموالي لتنظيم الدولة الإسلامية أو تنظيم القاعدة، والذي يعتبر السلاح آلية وحيدة لاقامة الخلافة والتمكين للشريعة، رغم الفروق البينة بين كل من القاعدة والتنظيم الدولة المبينة فيما يلي والتي زاد من تباعدها الموقف من الثورات العربية:

فإذا كان التمايز بين التنظيمات السلفية (الجهادية)، وبين التنظيمات الحركية بينا وواضحا، وإذا كانت دعاوى الجهاديين على الحركيين جلية للمهتمين، فما هي اداعات القاعدة على داعش واداعاءات داعش على القاعدة ؟ والتي بموجبها احتدم الصدام الفكري مما نتج عنه معركة دموية ابتدأت بالتكفير والردة وبلغت الصدام المادي الممتد في كل من سوريا والعراق وباقي ربوع تواجد الفصيلين !!

حاولت في هذا المقال أن ألم أهم الادعاءات بين هذين الفصيلين الذين يبدوان أن لهما كامل مقومات الوحدة والتقارب، خصوصا بتبنيهما لمبدأ الجهاد والنصرة، والانغماس في الأعداء.
وبعد متابعة للسجالات بين رموز الطرفين، وبعض الوقائع العملية، دونت بعض العوارض التي تُجلي الفرق بين هذين الفصيلين لا من حيث المرجعية الفكرية الإيديولوجية، ولا من حيث التكتيك في تدبير المعارك:

1- موالاة الطغاة: داعش تدعي على القاعدة أنها تناصر وتوالي الطغاة حسب زعمها، خصوصا بعد رسالة الظواهري المشهورة لمحمد مرسي بعد فوزه في الانتخابات بمصر !!
2- التسليم بالديمقراطية: داعش تدعي على القاعدة تسليمها بالديمقراطية بمباركتها صعود الحركات الإسلامية عن طريق الديمقراطية، خصوصا حركة حماس والإخوان المسلمين وحركة النهضة ..ومعلوم أن مفهوم الديمقراطية في الأدبيات السلفية الجهادية كفر ، لأنها تسليم بآلية مبتدعة ليس لها أصل في الدين؛
3- الدعوة إلى السلمية: تدعي داعش على القاعدة أن هذه الأخيرة سلمت بالسلمية، لما شجعت وأثنت على الثورات العربية منذ انطلاق شرارة الربيع العربي؛
4- أرض جهاد وأرض دعوة: تمايز الاختلاف حول هل أرض المسلين أرض دعوة أم أرض جهاد، وبموجب ذلك يترتب تنفيذ عمليات استشهادية حسب زعمهم؛
5- أموال المسلمين حل وغنائم: تمايز بين في ممتلكات المسلمين التي يحكمها حسب زعمهم الطغاة؛
6- موالاة المرتدين: تقارب القاعدة مع الصحوات والفصائل الحركية، وداعش تدعي على القاعدة مولاتها للمرتدين من الإخوان والصحوات؛
7- الإستفراغ بجماعة المسلمين: تدعي القاعدة على داعش استفراغها بجماعة المسلمين،
8- الإعلان عن الخلافة دون تمكين: تدعي القاعدة على داعش الإعلان عن الخلافة دون تمكين للمسلمين على مستوى الأرض عسكريا واقتصاديا
9- المغالاة في التكفير: تدعي القاعدة على داعش مغالاتها في تكفير المسلمين
10- تكفير الحركات الإسلامية: تدعي القاعدة على داعش مغالاتها في تكفير الحركات الإسلامية
11- من بين أهم الفروق بين القاعدة وداعش، أن الأولى كانت تشد الرحال إلى مناطق النزاع ليس بنية الاستقرار، أما داعش فتذهب بنية الاستقرار وإقامة الدولة، وتحرض مريديها بحرق جوازات السفر..
12- البيعة بالإكراه

خيار التيار الجهادي ومآله في الربيع العربي الفشل والانحسار، لاعتبار أنه يضرب في أهم مبدأ وأهم شعار رفعه الربيع العربي وهو السلمية، وتحقيق المطالب عبر الوسائل المشروعة، وهو مشروع لا يؤمن بالدولة الوطنية ولا المجتمع المدني ولا الديمقراطية ولا المفاهيم وروح الربيع العربي.

إذن هذه الرؤى تمثل توصيفا مؤلما لواقع حال علماء الدين في الأمة وخياراتها الدينية، والتي أفرزها بالأساس الموقف من الربيع العربي، وأمام هذه الرؤى أجد أن معالجتي للموضوع ستتطرق إلى سؤالنا عن الدين ومؤسساته “العلمائية” بين المنزع والمطلب، وما رافق هذا من تحولات تجلت على مستوى:
– طبيعة التشكلات “العلمائية” الدينية؛
– التوجهات الأيديولوجية المجتمعية؛
– التكتلات السياسية الحزبية؛
– الإعلام الديني والشحن الطائفي المذهبي؛

1- “مؤسسة المسجد وحالة الاستقطاب خلال أحداث الربيع العربي:
عرفت مؤسسة المسجد، حالة من الاستقطاب والتجاذب غير المسبوق، خصوصا بعد التحولات التي تعرفها الأمة، والتي تم فيها استعادة النقاش وبقوة، حول دور المسجد ووظيفته، وذكى هذا التجاذب والنقاش السياسي بين أطياف المجتمع في جل –إن لم أقل- كل الدول الاسلامية، وخصوصا منها التي عرفت حراكا شعبيا.

وكان لهذا الاستقطاب دور في إعادة التذاكر حول “المسجد” إلا أنه يمكن أن نسجل بعض المؤاخذات على طبيعة النقاش الدائر حول مؤسسة المسجد، أولى هذه المؤاخذات:

أولا: أن النقاش في غالبه كان مستهجنا لدور ووظيفة المسجد لاعتبار أن المرجعية التي كانت تقدم حوله كانت مقاربة ومرجعية سياسية صرفة، ذلك أن السياسي هو من تعرض للنقاش، فاستهجن ودخل في حالة استقطاب حادة. وضاع النقاش ونتائجه في متاهات السياسي المرهونة بمصالح ضيقة ومحدودة الزمن والمجال أيضا..

ثانيا: إلى جانب المرجعية السياسية القاصرة لوظيفة المسجد، وجدنا أنفسنا أمام مرجعية أيديولوجية لدى أطياف لها فهم ومنهج مخالف للدولة، فكان التجاذب الايديولوجي أيضا حادا، فضاعت مؤسسة المسجد بين نقاش أيديولوجي موجه بخلفية مسبقة.

ثالثا: سيطرة الدولة على مؤسسة المسجد والنظر إليها كقطاع يجب تدبيره ويدار كباقي القطاعات الأخرى كالتعليم والاقتصاد والرياضة..مما جعل هدف الدولة هو السيطرة عليه والتحكم في أروقته وفقط، الأمر الذي جعل الوظيفة الغائية تغيب عن الدولة، وأنتج لنا مؤسسات شكلية تحت رقابة صارمة جافة (رقابة بأعين مخبرين، وحالة الإقفال، وضبط زمني حاد لا يراعي روح المؤسسة، مع ضبط مضمون خطب الجمعة والجلسات التعليمية به..).

ومنه فإن كان من عنوان لحالة المسجد، خلال أحداث الربيع العربي فهو “المسجد: في حالة الاستقطاب”.

أضف إلى هذا، فقدان مؤسسة المسجد لهيبتها وبشكل غير مسبوق في التاريخ، فمشاهد المساجد المدمرة زعزعت عقيدة صورة هاته المؤسسة لدى الناس، فابتداء من مشاهد التخريب والعبث التي يتعرض لها، مرورا بجعل المساجد منطلقا وبؤرا لأغلب المسيرات والاحتجاجات ضد السلطة في العديد من دول الربيع العربي، ومكان لاستقطاب بين تيارات إسلامية مختلفة من الناحية المنهجية والفقهية، وصولا إلى مشاهد التفجير والحرق للمساجد، كل هذا زعزع قدسية المؤسسة في وجدان الناس، مما يجعل النقاش والبحث والتوصيف مهم لتوجيه الأمة لوظيفة ودور هاته المؤسسة المقدسة.

وأعتقد أن مؤسسة المسجد في خضم الربيع العربي تتنازعه محاور كل من الإسلاميين بشتى تلاوينهم (السلفيين، المتصوفة، حركات الإسلام السياسي..) والاسلاميون يعدون أهم الفاعلين الأساسيين الذين يمتلكون نظرة خاصة لوظيفة المسجد، ولهم زاوية نظر معينة لحدود علاقتهم بالمؤسسة، والفاعل الثاني هو: الدولة؛ باعتبارها المتحكم في شؤون التسيير الداخلي والخارجي له.

الاسلاميون والمسجد:
بالنظر للمنهج العام الذي يسلكه الإسلاميون لإحياء وبعث روح النهضة والتجديد في الفكر الإسلامي، نجدهم يعيديون النظر بروح تجديدية في مختلف مظاهر التدين، ومقومات الإسلام التي لحقها التراجع والركود، ومن أهم هاته المقومات التي طالها الركود والجمود، هي مؤسسة المسجد، فنرى أغلب أدبياتهم وخطبهم، ومحاضراتهم وتوجيهاتهم تؤكد على ضرورة استعادة وظائف المسجد الحقيقية التي كانت على عهد الصدر الأول من الإسلام، وتتجلى هاته الوظائف في كل من الوظيفة العلمية، الوظيفة الاجتماعية، الوظيفة التواصلية، الوظيفة القضائية، الوظيفة الجهادية.

ويعتبرون المسجد بؤرة تحقيق التغيير و موقع تعبئة الشباب وتحميسهم وتربيتهم، فكان الالتقاء والاجتماع بالمسجد أهم آلية من آليات التأطير والتربية لدى أغلب الإسلاميين، بل وجدنا بعض الحركات الاسلامية من كان ينظم جلساته وبعض أنشطته، والقيام بحملات تنظيف له، ومختلف الأنشطة الاجتماعية والخيرية.

السلفيون يذهبون أبعد من هذا ويسعون للسيطرة على أغلب المساجد من الإمامة إلى الخطبة والأذان إلى تدبير شؤونه كاملة، وهو ما جعل الدولة تدخل في تنازع شديد بينها وبين الإسلاميين في أماكن الربيع العربي.

بالنسبة للزوايا فجلها كانت بمنأى عن تدخلات حركات الإسلام السياسي أو السلفيين، بل كانت في صف السلطة والأنظمة، وتم تسجيل العديد من الحالات التي كانت فيه الزوايا منطلقا لمسيرات مساندة للدولة ومضادة للاحتجاجات الاجتماعية.

إن مآل مؤسسة المسجد بعد الربيع العربي أصبح مرهونا بتعقل كل التيارات والأنظمة، وإعادة الهيبة لهذه المؤسسة وعدم الزج بها في الاستقطاب الحاد، وتوقيرها بالأحرى لتظل وظيفتها المتمثل في التجميع والتوحيد والعبادة.

2- الإعلام الديني والربيع العربي:
من المعلوم أنه متى ما تمت مقابلة مفهوم “الدين” بأي مجال من المجالات أو حقل من الحقول إلا وكانت للمقابلة شرارة ونقاش تتفرع عنه العديد من الإشكالات -التي غالبا ما لا نجد لها إجابات حَدية- وذلك راجع لطبيعة الدين في ذاته و وبالنظر إلى بنيته التي وضعت معالم ومبادئ عامة لابد من احترامها وعدم الخروج عنها، ولطبيعة تلك المجالات التي تعرف نوعا من الحرية المطلقة، فيكفينا أن نطلع على الكتب –مثلا- التي أُلفت حول الدين والفن أو الدين والثقافة أو الدين والسياسية أو الدين والعلم، لنرى حجم النقاش وتشعباته التي أحدثها.

وتناسبا مع ذلك فإن مقابلة “الدين” بـ “الإعلام” خلق نفس النقاش المحتدم، وترك سيلا من الأسئلة الشائكة، إذ الحقل الإعلامي يُعد من أهم الحقول التي تعرف تطورا متسارعا وتجديدا في بنيته ووظيفته، شكلا ومضمونا، وذلك راجع لطبيعته التي تُلزم بمسايرة حركية المجتمع المتغير من جهة، ومن جهة أخرى للتنافس على جمهور واسع تسعى دائما لتشده إليها، ولهذا نرى ذلكم السباق المحتدم بين كل وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والالكترونية على الجودة في الأداء وتأهيل كوادرها وأطرها وتقنييها وأدواتها واستوديوهاتها ونوع بثها وشراكاتها، من أجل تكوين قاعدة مهمة من المتابعين والمشاهدين والمتفاعلين.

وفي زمن التخصص اختارت العديد من وسائل الإعلام التميز في مجال من المجالات، ففي ميدان الرياضة نجد قنوات بالعشرات متخصصة في الرياضة وشؤونها، وقنوات متخصصة في الاقتصاد والمال، وأخرى متخصصة في الفكر والثقافة والسياسية، وأخرى في الأخبار والتحليل وأخرى في الأفلام الوثائقية.. وبجانب هذه القنوات نجد كذلك قنوات جعلت من الدين محورا ومادة لجُل فقراتها وبرامجها؛ من دروس وعظ وارشاد وخطب، ومحاضرات وندوات وبرامج تعليمية دينية للكبار والصغار وللنساء وللرجال..

وبرز الاهتمام بوسائل الإعلام الدينية، والعناية بها مضمونا وشكلا، نظرا لطبيعة الدين أولا؛ الذي يحث على التبليغ ونشر تعاليمه، والاجتهاد في طرق إيصال مادته، وثانيا لمدى التأثير الذي يخلفه في جمهور المستمعين والمشاهدين، وثالثا للجاذبية التي يكونها الإعلام الديني ويَكُون لها آثار وانعكاسات على حقل السياسية والاقتصاد والاجتماع.

• مفهوم الاعلام الديني:
للإعلام الديني مكانة مركزية في العالم العربي أمام كل من الإعلام الثقافي والسياسي وحتى الإخباري، لما له من تأثير على وجدان المشاهد بالأساس، ذلك أن الإعلام الديني لا يخاطب الجانب العقلي وفقط، أو الحدث اليومي، وإنما يخاطب أيضا وجدان ومشاعر المشاهد (العقيدة)، ومؤثر من حيث رموزه وأطره، وكلنا يعلم حظوة “الداعية” أو”الفقيه” أو رجل الدين بشكل عام لدى الشرائح المجتمعية، فما حد وتعريف الإعلام الديني؟ وهل يوجد أصلا إعلام ديني؟ وما وظيفة هذا اللون من ألوان الإعلام؟

يذهب العديد من خبراء الإعلام والاتصال إلى أنه لا يوجد إعلام مستقل بذاته يمكن أن نسميه إعلام ديني، بقدر ما يوجد إعلام برسائل متعددة “الإعلام الديني لا يختلف عن باقي ألوان الإعلام الأخرى، فالإعلام واحد وإنما طبيعة رسالته هي التي تختلف”(5)، ويرى أيضا آخر أن العلاقة بين الإعلام والدين سواء فيما يتعلق بقضايا العقائد أو السلوك (العبادات والمعاملات) “هي نفسها العلاقة التي تنسجها مع باقي المواد الإعلامية، حقا إن لقضايا الدين طبيعة خاصة؛ لأن وسائل الإعلام هنا تخاطب ليس فقط العقل، وإنما وجدان وإيمان جمهور المستقبلين” ويضيف ” إن البرنامج الديني مادة إعلامية كباقي المواد الإعلامية الأخرى، تتحدد انطلاقا من طبيعة المرسل أو المصدر، ثم من حيث الرسالة أو مضمون الرسالة الموجهة، ومن حيث طبيعة المستقبل ومن حيث طبيعة الخطاب المعتمد.

كما يمكن للمادة الإعلامية الدينية أن تندمج في برامج من طبيعة أخرى مثلا: الأفلام و المسلسلات والأشرطة الوثائقية..بهذا المعنى يمكن للمادة الإعلامية ذات الطابع الديني أن تتسع وتأخذ حيزا أكبر(6) “ونجد أيضا عرفان نظام ينحو منحى أن لا وجود لإعلام ديني، ويقول أن الإعلام العربي “مازال يتعامل مع الإعلام كدين، وكقضية وفق الأساليب التقليدية القديمة وكمجرد تحصيل حاصل أو سد فراغ..” عرفان نظام الدين “(7).

ويذكي محمد السماك نفس الموقف قائلا: “من المبالغة في تبسيط الأمور الادعاء بوجود إعلام ديني، له كيانه وشخصيته واستقلاله سواء على كتلة العالم الإسلامي..أو حتى على صعيد العالم العربي..وحيث لا توجد استراتيجية واحدة ينتفي الإعلام الواحد على الصعيدين العربي والإسلامي الأوسع”(8).

ويمكن الإشارة هنا إلى أن أغلب خبراء الإعلام والاتصال ترجع خلفية تحليلهم ومقاربتهم للإعلام الديني إلى طبيعة تخصصهم ورؤيتهم للإعلام بشكل عام، ولهذا نجدهم يعتبرون الإعلام الديني كباقي ألوان الإعلام الموجودة، والتي تخضع لنظرية واحدة في المجال.

كما أن مفهوم “الإعلام الديني” يطرح لنا إشكالا مشروعا، يمكن أن نعبر عنه كما يلي: هل سيتم التعامل مع الإعلام الديني على أساس أنه إعلام قائم بذاته أو بالأحرى نظرية مستقلة؟ وإذا قلنا “إعلام ديني” فهل يقابله وجود إعلام غير ديني؟ وما هي حدود تمايزاته عن باقي ألوان الإعلام الأخرى؟

إلا أننا في دراستنا هذه، سنستبعد هذا النقاش الأكاديمي والنظري، إذ يمكن أن نفرد له مستقبلا بحثا خاصا يتناوله بالتفصيل، ولكن حسبنا هنا أن نتوقف على المتاح من التعاريف، من أجل تقريب الموضوع، ومن أجل أن نتماشى مع الدوافع التي ذكرناها في مقدمة الكتاب.

يمكن أن نحدد الإعلام الديني في ما يلي ” كل تناول إعلامي لمادة أو معرفة أو سؤال أو قضية دينية” وهو ما وجدناه في العديد من التعاريف التي تناولت الإعلام الديني في جانبه العملي والواقعي بالعالم العربي “الإعلام الديني هو الإعلام الذي يختص بمهمة نشر الدين وعلومه”(9). ويقصد به أيضا: “ذلك التوجه بالكلام المسموع والمرئي والمقروء في الإذاعة والتلفزيون والصحافة المكتوبة، ويقصد بالديني هنا ما كان متعلقا بدين الإسلام خاصة”(10).

ويعنى به أيضا: “تزويد الجماهيـر بصفة عامة بحقائق الدين الإسلامي المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله، بصفة مباشرة أو غيـر مباشرة، من خلال وسيلة إعلامية دينية متخصصة أو عامة، بواسطة قائم بالاتصال لديه خلفية واسعة، ومتبعة في موضوع الرسـالة التي يتناولها، وذلك بغية تكوين رأي عام صائب يعي الحقائق الدينيـة ويدركها ويتأثر بهـا في معتقداتـه، وعباداتـه”(11).

وأود أن أشير هنا، إلى أننا عندما نستدعي هذه التعاريف عن الإعلام الديني لا نقصد بذلك تجاوز أهل الاختصاص، ولو أني متفق مع التعريف الأكاديمي للإعلام وأميل إلى ما ذكرنا في البداية كون الدين مادة من المواد ولو من من الألوان التي يتناولها الإعلام، غير أن التجريد الذي أقوم به الآن راجع لطبيعة الموضوع المعالج لنتبين بعض مفاصله ومعالمه.

وأختم بآخر تعريف أورده في الباب حول الإعلام الديني وأهم واجهاته ونوافذه “المساجد؛ الصفحات الدينية في بعض الجرائد اليومية والأبواب الثابتة فيها وفي بعض المجلات، المجلات الأسبوعية الدينية المتخصصة، البرامج الدينية في الراديو؛ البرامج الدينية في التلفزيون؛ إذاعات القرآن الكريم؛ المواد والمحتويات لإعلامية التي تعكس صورا من الثقافة الإسلامية مثل المسلسلات وبعض البرامج الثقافية؛ الإذاعات الحية للمناسبات؛ المحتويات الإعلامية لشهر رمضان وللأعياد والمواسم؛ القرآن الكريم الافتتاح والاختتام؛ الأفلام الدرامية الدينية مثل: الرسالة، القادسية، عمر المختار، أهل الكهف، مريم العذراء إلخ.الأفلام الوثائقية (التسجيلية) عن الآثار الإسلامية ومناسك الحج الخ”(12).

لقد تناسلت العديد من القنوات والإذاعات والجرائد الدينية مباشرة بعد أحداث الربيع العربي، وزاد من تأثيرها مضمونها غير المرهون بأخلاقيات وأدبيات المهنة، بل كان مرهونا بأجندات سياسية تم فيها استدعاء النصوص الدينية وبقوة في الحشد والتجييش، مما زاد من الشرخ المجتمعي وخاصم بين الأخ وأخيه، وبين فئات المجتمع، واستحل دماء الناس، ومازالت تداعيات مضمون هذا الإعلام على المجتمع وبقوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مازالت المراكز والمجلات والجامعات العربية نوافذ للتذاكر والدراسة والبحث حول التحولات، نظرا لثقل الأحداث على التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية.
2 ـ استضافت أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، المنتدى العالمي “تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” الذي عقد على مدى يومي الأحد والإثنين 08-07 جمادى الأولى 1435، الموافق 10-09 مارس 2014، في محاولة منه أن يقدم للعالم؛ توضيحاً للمفاهيم، وشرحاً للمضامين، وبياناً للحق، ونداء للأمة الإسلامية وللإنسانية، أصدره جمهور من العلماء والمثقفين وقادة الفكر والمفتين في العالم، لإطفاء الحريق ولتدارك هذه الأوضاع، بمحاصرة نيرانها وحصار الأفكار الجائرة الظالمة التي أنتجتها، حيث ناقش العلماء والباحثون مجموعة محاور وموضوعات، تسعى إلى إخماد الحرائق والضغائن والأحقاد المتأججة في جسم الأمة، التي تهدد نسيجها الاجتماعي بالتفكك والخراب، وتضعف كل عوامل المناعة الذاتية، في مواجهة التحديات والأطماع والمؤامرات. وتركزت المناقشات والحوارات على تحرير المفاهيم وتصحيح التصورات، والحفر في الأصول الفكرية والحالة الثقافية، التي أفرزت هذه الأوضاع، تمهيداً لمعالجة عللها ومحاصرة آثارها (http://peacems.com/?page_id=52)
3 ـ الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، مواليد سنة 1935م في تمبدغة في موريتانيا، أحد أكبر العلماء السنة المعاصرين،والنائب السابق لرئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، ورئيس ومؤسس لمجلس حكماء المسلمين، تم اختياره من قبل جامعة جورج تاون كواحد من أكثر 50 شخصية إسلامية تأثيرا لعام 2009م، وقد فاز بلقب “أستاذ الجيل” في جائزة الشباب العالمية لخدمة العمل الإسلامي في دورتها السابعة في البحرين، رئيس منتدى تعزيز السلم، https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87_%D8%A8%D9%86_%D8%A8%D9%8A%D9%87)
4 ـ مؤتمر أهل السنة والجماعة أو المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين المعروف ب: مؤتمر الشيشان أو مؤتمر جروزني هو مؤتمر استضافته مدينة غروزني عاصمة جمهورية الشيشان يوم25 أغسطس 2016م، تحت عنوان: “من هم أهل السنة والجماعة؟ بيان وتوصيف لمنهج أهل السنة والجماعة اعتقادًا وفقهًا وسلوكًا، وأثر الانحراف عنه على الواقع”، بحضور شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وجمع من المفتين، وأكثر من مئتي عالم من علماء المسلمين من أنحاء العالم، تحت رعاية الرئيس الشيشاني رمضان أحمد قديروف. ويعتبر هذا المؤتمر حسب رأي مُنظِّميه: “نقطة تحول هامة لتصويب الانحراف الذي طال مفهوم “أهل السنة والجماعة” إثر محاولات اختطاف المتطرفين لهذا اللقب وقصره على أنفسهم وإخراج أهله منه”.
5 ـ الخطاب الديني في الفضائيات العربية، محاضرة للدكتور يحيى اليحياوي، صالون جدل الثقافي الرباط 08 فبراير 2014
6 ـ وسائل الاعلام وقضايا الدين، حوار مع د. عبد اللطيف بنصفية، 2008-07-24 الحوار اجراه موقع الرابطة المحمدية
7 ـ الإعلام والإسلام الطبعة الأولى إصدارات بيت القران المنامة البحرين يوليوز 1997 ص 26
8 ـ محمد السماك الإعلام الديني في الشرق الأوسط مجلة الدراسات الإعلامية العدد 66 يناير مارس 1997 ص 74- 75
9 ـ كتاب الإعلام في المجتمع الإسلامي، الأستاذ حامد عبد الواحد الصفحة99
10 ـ علي جمعة نقد الخطاب الديني في رمضان مجلة العربي العدد 505 ديسمبر 2005 ص 36-39
11 ـ د. محيي الدين عبد الحليم، الإعلام الإسلامي وتطبيقاته العملية: 154.
12 ـ محمد سيد محمد، المسؤولية الاعلامية في الاسلام المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر 1986 الصفحة 56

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.