اسامة البحري ـ طالب بشعبة علم الاجتماع، بني ملال
تتأسس القاعدة الأولى حسب دوركهايم على قابلية التحرر عن كل فكرة مرت الى شعورنا اعتباطيا، وذلك عبر تتبع منهجية وضعية تتمحور أساسا على إستباق الفهم العقلاني للأشياء بدل الإنصياع خلف قهريتها، فمنذ البدايات الاولى لتاريخ الفكر “الفلسفة الطبيعية / الايلية / الايونية / الفيتاغورية / الافلاطونية / صغار السقراطيين” نجد أن عمل الفلاسفة كان متمحورا أساسا على الانتقال من هيمنة الميتوس إلى منطق اللوغوس، وهذا ما برهن عليه أرسطو “ما بعد افلاطون” بأعماله التي دافعت عن بناء صرح نظري متين* يتبنى التفكيك النظري كإطار مرجعي يفصل علائقيا بين التأويلات البشرية وبين فينومينولوجيا الجواهر، وهذا ما تم الإعتماد عليه بكل من القرن 16،و 17، و 18 : بيكون / ديكارت / اسبينوزا / لايبنتس / جون لوك / هيوم / بركلي / كانط / هيغل / كونت” فقد كونو عبر كتابتاهم إطارا فلسفيا * أدى إلى استقلالية المناهج العلمية عن التأويلات العفوية.
وهذا ما انطبق على قواعد التحليل السوسيولوجي مع دوركهايم ، فقد حققت من خلال ما جدده في البراديغم السوسبو نظري، انتقالا من التحليل الفلسفي المجرد إلى تفكيك مبني على بحوث ميدانية / امبريقية ، وهذا ما برهن عليه دوركهايم بعمله “الانتحار” الذي حقق بفعله طفرة من فلسفة المعرفة و فلسفة الإجتماعي: ( فلسفة بيكون ” نقد الأوهام” ـ فلاسفة العقد الإجتماعي: هوبز روسو اسبينوزا .. ـ فلسفة ما فوق العضوي ” داروين ـ سبنسر ” ) إلى فلسفة ميدانية توازن بين الكمي والكيفي كأعماله “الاشكال الأولية للحياة الدينية – تقسيم العمل و خصوصا عمله السالف الذكر ( الإنتحار ) ” وعبر هذه الطفرة العضوية بتاريخ الفكر يكون المنهج العلمي قد برهن لنا ابستيميا ، على انه استطاع عبر تاريخه النظري، أن يجدد من آلياته النظرية التي بفعلها يتم تفكيك الخيوط الناظمة التي تفصل او تستبعد او تدمج (موضوعيا)، العلاقة السوسيو ـ انثربولوجية للانسان بالعقل الانطلوجي او بالذهنية الكوسمولوجية، وعبر هذه الموضوعية في تحليل موضع و وضعية الانسان على الوجود، تميزت آليات التفكير الموضوعي، تحت دعوى امتلاكها لقدرة خلق مسافة نظرية داخل أذهان كل باحث / باحثة مع كل المعيقات المعرفية التي لم تنشأ بطريقة فيلولوجية / نظرية محضة.
فعبر هذه المسافة او القطيعة الإبستيمية مع أجزاء الضمير الجمعي، يعي الباحث ضمنيا مدى قدرتها على اختراق شعورنا بكونها أجزاء لنسق عام تذوب ارادتنا العلمية من اجل تقديسها لوحدها بكونها وعيا جمعيا، وفي هذا الصدد يقول دوركهايم “لقد نشأت هذه الأفكار لتسد بعض الحاجات التي ليست بينها و بين العلم صلة 1 “ففي هذا السياق نفهم ضمنيا بأن براديغم ” سوسيولوجيا المعرفة 2 “، ليس وليد صدفة و ليس اعتباطي البنية، بل هو و اعتمادا على ما ذكرناه اعلاه هو نتاج توليفات نظرية مرتبطة ببراديغم تاريخ العلوم (أوغست كونت: المرحلة الميتافيزيقية ـ المرحلة الوضعية ) فهو اذن مرتبط بالطفرة الابستيمية التي حققها العقل البشري بين المراحل المعرفية بوساطة العقل النقدي.
وعلى هذا المنوال يستحيل على البحث السوسيولوجي اذن (عمليا) فصل تيليسكوب سوسيولوجيا المعرفة عن ديناميكية التحليل السوسيولوجي، لأن هذا الأول يشتغل بكونه مصفاة نظرية (التنبه المنهجي – بورديو *) ينقح المعرفة البشرية من خلال فصل كل البنيات المتطبع بها إجتماعيا، عن النظرة السوسيولوجية / الموضوعية التي تعمل على جعل كل مثير فينومينولوجي “شيئا “، وبهذا فان السوسيولوجيا كمعرفة تشتغل من خارج الانساق الثقافية و ليس من داخلها.
فكل هذه الأنساق الثقافية المعتقد فيها doxa هي ذات تركيبية عفوية، وتفسر حسب المتن البوردوزي بكونها؛ عبارات عفوية، غير مؤهلة لتحقيق دور التفكيك و اعادة بناء الفينومين السوسيولوجي على مستوى الفكر، لأنها تتفاعل من داخل الجسد الاجتماعي بكونها نسق معتقد في حقيقته المطلقة، علاوة على ذلك انه يشتغل بستاتيكية تحافظ من كل زواياه النظرية على “ديناميكيتها الاسمنتية”، والأكثر من ذلك أن هذه الستاتيكية الاسمنتية تتحقق من خلال خلقها لشبكة اجتماعية بنيوية التركيبة، لا تمت بأي صلة للعلم لأنها تعتبر بالمخيال العام نسقا يحافظ على توازن المجتمع عبر خلق هابيتوسات * منعكسة عن الوعي الجمعي داخل بنيات أذهان الافراد و كذا أجسادهم، ويرتبط سبب تأجيل خاصية التحرر عن هذه الاراء الاسمنتية، بهيمنة الشعور العاطفي على بنية الإستعدادات الابستيمية للذهن، فعبر هذا التأجيل تصبح لهذه المعارف البديهية العاطفاتية إستمرارية وسلطة على جسد وتفكير المهتمات والمهتمين بالمنهج السوسيولوجي، وهذا ما يجعل من كل راي يخالف هذه الاراء الثقافية ، يفسر عبر المعادلة الهابيتوسية على انه عدو إبستيمولوجي يجب استبعاده بدل تفكيكه و تحليله سوسيولوجيا.
و نفهم من خلال ما سلف أن الحساسية العاطفية تنعكس عبر تفاعلها داخل بنية اللاشعور الجمعي ، على شكل عائق منهجي يمنع من تمخض أبعاد ابستيمية ـ علمية محضة، وهذا ما يجعل من هذه الأخيرة ( الأفكار الموضوعية) تخلق داخل بنية الهابيتوس تخوفات و تمثلات ثقافية، تدعو اجتماعيا الى اعتبار هذه الافكار التي تشيء الفينومينولوجي أفكارا ناتجة عن ”إنسان مجرد عن كل عاطفة خلقية 3 ”ولهذا نجد من زاوية الإجتماعي أن أصحاب هذه الحساسية يدافعون في استمرار على بناء براديغم سوسيولجي من خلال هذه العواطف “كالتأويلات الدينية المقدسة ، المعتقدات الاسمنتية”، وفي هذا السياق سلم بورديو بالقسم الأول من عمله حرفة عالم الإجتماع، أن عبر هذا التطبع الإجتماعي الذي يستبعد العلمي عن العفوي، تخلق داخل الذهن «عوائق منهجية أولى»، تؤدي حسب محمد جسوس إلى خلق :”عوائق نظرية شاملة بعلم الإجتماع “، وترتبط هذه العواىق النظرية بالالتصاق السميك للباحث،ة مع ماضيهما الإجتماعي المكون من مفاهيم تتعلق بمدارهما السوسيو ثقافي ، وتعتبر هذه المفاهيم العفوية حسب تعبير بورديو أو المعاني العشوائية حسب تعبير دوركهايم، تكتلا و تراكما من الافكار الاجتماعية العفوية التي تشكل عقلا اسطوريا حسب تعبير بورديو او وعيا جمعيا حسب تعبير دوركهيام ، تعمل على تشيء الهوية الابستيمية المطالبة من طرف البراديغم السوسيولوجي بتشييء ذات الباحث.ة وكذا الفينومين الثقافي” من أجل إعادة بناء الاجتماعي من ناحية الفكر (د ادريس ابن سعيد في حواره د زكرياء ابراهيمي) “، ولهذا فقد دافع bourdieu بشدة في هذا السياق على ضرورة إقامة السوسيولوجي،ة لنقد عام و جدل كلي لكل هذه البديهيات المضللة من أجل تجاوز القهر الفينومينولوجي الذي يستبعد النظرة العلمية عن الحياة الإجتماعية.
1 ـ القطيعة الابستيمية ببراديغم سوسيولوجيا المعرفة “تحليل النقط الآنفة”
القطيعة الابستيمولوجية هي نتاج تراكم و توليد إبستيميه لا منقطع ، ويدخل الامر هنا بشدة في نقطة إرادة المعرفة، ففي هذا السياق يجد كل مهتم بتخصص موضوعي ـ علمي، إنفصالا من حيث الفكر بين ثقافته الإجتماعية و ثقافة البراديغم العلمي المرتبط نظريا مع قواعد تاريخ المعرفة العلمية، والتي تنبني أساسا كما بين “الوقيدي” بأعماله، على تجاوز العائق الاديولوجي الذي يفصل بين التراكم العلمي و النظرة العلمية، فهذا التجاوز حسب” الوقيدي” يخلق مباشرة كوسمولوجية (ابستيمولوجيا أذهاننا) التي تنتقل نظريا وكذا عمليا من هيمنة المرحلة اللاهوتية/الميتافيزيقية إلى مرحلة التحليل الوضعي، فهذه الأخيرة كما يتفق مؤرخو المعرفة البشرية و من بينهم “فوكو”، هي الوحيدة التي استطاعت عبر قواعدها النظرية أن تجعل من العقل البشري قادرا على استكشاف الرموز الأنثربولوجية والسوسيولوجية التي ”تشكل المشاركة النشطة للذوات 3″.
ونفهم من هذا (ضمنيا) أن الأفراد لا يعون أسباب تفاعلاتهم الانثربولوجية و السوسيولوجية لسبب واحد، يتمثل في تغلغل هذه المكتسبات الثقافية مع تركيبة الأجساد الفردية، وهذا ما يتكسها داخل الدماغ الى خطاطة شمولية – مقدسة تحكم البنيات اللاشعورية للافراد وكذا كل مثير يتفاعل معه الفرد بواقعه الإجتماعي، وطبعا هذا ما يفتح إستحالة تساؤلات الأفراد عن أسس نظرتهم لمشاكل بنية الواقع الاجتماعي، فغالبا ما لا ينتبه إليها الفاعلون الإجتماعيون بكونها هابيتوسا يأخذ طابع الشيفرات الإجتماعية التي تتطابق مع كل مثير ماضوي أو حاضراتي بالحياة الاجتماعية، وهكذا يكون وجه الاختلاف الذي يفصل بين العقل الموضوعي والعقل الخاضع لمعتقدات جماعة معينة، يتمحور اساسا حول مفارقة سوسيولوجية بديهية، تتمثل في قدرة الأول ابستيميا على جعل شروط المعرفة حسب تعبير كانط” نقد العقل الخالص”، تشتغل في استمرار عبر مقارنة الظواهر الاجتماعية بغية تفكيكها وإعادة بنائها سوسيولوجيا، على عكس الثاني الذي يسهر على جمودها بدعوى أنها الحقيقة المطلقة والسبيل الوحيد لعيش حياة اجتماعية متوازنة.
فقد اتفق المهتمون بتاريخ البشرية ومن بينهم فوكو أن هناك عائقا منهجيا كان حاضرا باستمرار في تاريخ البشرية، ويشتغل في هذا الصدد بكونه آلية تعيق على حركة المنهج العلمي ديناميكيتها الطبيعية وترتبط هذه الالية اشد الارتباط بالانساق الثقافية، فهي البنيات الوحيدة التي كانت تحجب الحقاىق عن الأفراد (تاريخ الجنون – ميشال فوكو – الفصل الاول – سفينة الحمقى) وبما انها كانت تشتغل بآلية الضبط الفعلي وكذا الفكري، فقد كانت بذلك تحد من رؤية خواص الظواهر التي تشكل أسس الفينومين، وتفسر هذه العوائق الاجتماعية انثريولوجيا وسوسيولوجيا بكونها (تكتلا من الابعاد الرمزية التاريخانية التي تشكل بنية متناسقة الشكل والتي تستبعد الأذهان عمليا عن التحليل العلمي )، فهي عبارة عن نسق خفي (مهذب – العنف الرمزي للغة – اعادة الانتاج – الهيمنة الذكورية)، يتجسد مرئيا على أشكال ووقائع وظواهر يألفها المجتمع رغم انها في غالب اوقاتها تعيق على العقل نشاطه النقدي الذي بموجبه يتمكن من تحليل الواقع سوسيولوجيا، ولهذا فإذا ما واصلنا مع ميشال فوكو بعمله “حفريات المعرفة ” سنجده يسلم بفكرة أساسية وهي أن عائق التفكير الذي يتكون من “الايمان بتأويلات الدين، الثقافة – التشبت اللدوغمائي بهذه التأويلات ” ينعكس على شكل غمامات تحجب عن الفرد رؤية خواص الظواهر و كذا كينونتهم وماهيتهم الطبيعية التي تستبعد من طرف مشروعية هذا الرأسمال الثقافي.
ولكن رغم ذلك فإن العقل البشري حسب فوكو مكون بإحكام ليصل إلى هذه الأبعاد الخفية التي تضبطه اجتماعيا، ويتحقق ذلك عبر الابتداء بأول مقارنة بين ما يعيشه الفرد من اشياء اجتماعية وبين ما يطمح إلى عيشه بكونه إنسانا، فوحدها المقارنات بين ما اكون الان و ما يجب حقا أن اكونه، هي الكفيلة بفتح إمكانية التفكيك واعادة بناء كل ما هو معتقد فيه عمليا من أجل تصريفه علميا أمام بنية العقل البشري، وعبر الاستمرارية في تفكيك معتقداتنا بدل تقديسها، يتم إزالة غمام الافكار العفوية عن اعين الباحث.ة، وهكذا تتحقق القطيعة الابستيمولوجية التي نعتها افلاطون ببدايات تاريخ الفكر “الخروج من كهف الأوهام”، من أجل تحقيق ما سلم به تلميذه أرسطو العلم بالأسباب و العوامل و العناصر الأولية، وذلك عبر معرفة البنية الأساسية للجواهر المدروسة، بحيث تكون الأولوية دائما للبسيط على المركب وبحيث تسبق المبادئ ما يترثب عليها6 ″و في هذا السياق يرى دوركهايم أنه يجب على الباحث التركيز على أسباب الظواهر “خواص الظاهرة: الأجزاء المتحكمة رمزيا في الظاهرة”، وذلك عبر التدرج معها كما سلم ارسطو من البسيط الى المركب و طبعا تحت لواء فكرتيهما ” تحليل الوجود بما هو موجود – أرسطو ” / ” تحليل الاجتماعي بما هو اجتماعي – دوركهايم “، والتي تعني لنا تحليل الوجود الإجتماعي بكل موضوعية.
ففي هذا السياق سيتمم بورديو نقاشنا حول الموضوعية، مسلما بالمحور الرابع من عمله حرفة عالم.ة الإجتماع، بان المسافة مع الماضي “تحليل الاجتماعي بما هو اجتماعي “، تخلق أداة داخل ذهن الباحث تنعت بالتنبه المنهجي، فهي تقنية سوسيولوجية تشتغل في استمرار على التقاط أجزاء الظاهرة، زد على ذلك انها تعمل ايضا على التمييز بين ما هو عفوي و ما علمي بالحياة الاجتماعية، فهاتين الاليتين “المسافة: القطيعة الابستيمية / التنبه المنهجي” هما الوحيدتين القادرتين حسب بورديو على توجيهننا مباشرة إلى القاعدة الأساسية والأخيرة بعمله حرفة عالم.ة الاجتماع (التفكر المنهجي) والتي تعني القدرة على تفكيك الفينومين واعادة بناىه على مستوى الفكر، فهي قدرة يكتسبها الذهن من خاصية القطيعة الابستيمية والتنبه المنهجي.
وفي هذا الصدد يشرح غدنز التفكر المنهجي بأنه قدرة على شرح كيفية صياغة البنية من خلال الفعل أو الأفعال، وفي هذا الصدد أقر غدنز، بأنه ”يستحيل على الملاحظ السوسيولوجي استحضار الحياة الإجتماعية كظاهرة تحت الملاحظة بمعزل عن الإعتماد على معرفته النظرية، كمصدر يتم من خلاله تأسيسها كموضوع للبحث والتحليل ”بمعنى مبسط و حسب المتن البردوزي، الواقع لن نراه يوما ما محللا *، وهنا تكمن ضرورة البحث العلمي ، فمادات الوجود الاجتماعي سديمي من حيث اسس المشاكل، فيجب علينا نحن كباحثين / باحثات مساءلته من خلال معرفتنا السابقة التي عرضناها للنقد والتحليل والتي منها كونا أداة التنبه المنهجي والتفكر المنهجي التي بفعلها يتمكن العقل البشري من فهم الأجزاء التي تكون واقعنا الإجتماعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
* أرسطو – دعوة إلى الفلسفة
* ميشال فوكو – الكلمات و الأشياء
1 : إميل دوركهايم قواعد المنهج في علم الإجتماع – ص : 98
2 : كارل بوبر – المجتمع المفتوح و أعداؤه – الجزء الثاني
• عد/ي إلى القسم الثاني من عمل بورديو ” حرفة عالم،ة الإجتماع”
• عد/ي إلى تعريف الهاببتوس الموجود بالجزء الأخير من عمل بورديو ” الهيمنة الذكورية ”
3 : إميل دوركهايم قواعد المنهج في علم الإجتماع – ص : 98
4 : غدنز – قواعد جديدة بعلم الإجتماع – ص :270″
5 : المرجع ذاته – ص : 230
6 : أرسطو طاليس – دعوة الى الفلسفة – ص 26
* بيار بورديو – حرفة عالم ة الاجتماع – القسم الثاني – المحور الثاني
المصدر : https://dinpresse.net/?p=11648