نورالدين الحاتمي
لا يحتاج الحديث عن العلاقات المتوترة بين الإسلام و الغرب إلى تحرير و بيان، فالإشارة إلى الطابع الصدامي و الحربي الذي تتلون به هذه العلاقة، من الوضوح بمكان، إلى حد أن التصريحات التي تصدر عن مثقفيه و سياسييه لا تذر أي معنى للقول بخلاف ذلك. يعترف الغرب ، بشهادات عدد من مثقفيه ـ أنه لم يعمد إلى تشويه سمعة أي جماعة ثقافية أو دينية أو قومية كما فعل مع العرب، كما قال “نيكولاس فون هوفمان” و لم يعمد إلى إعلان الحرب على أي كتاب ديني مقدس كما فعل مع القرآن ، وغزارة إنتاجاته في هذا السياق شاهدة، و لم يتعمد إهانة أي دين أو معتقد كما فعل مع الإسلام، وفق ما نقله “عبد الرحمان بدوي” عن “أدريا رولاند”. فعلا ما إذن كل هذا الحقد؟ و إلى ما تعزى كل هذه الكراهية ؟ هل من المنطقي أن سر هذا العداء كامن في الخوف من الإسلام أو ما يسمونه “الإسلاموفوبيا”؟ و هل هذه “الإسلاموفوبيا” مبررة و “معقولة”؟
تعتبر هذه الورقة نفسها ردا مباشرا و غير مباشر على هؤلاء الذين يرفضون القبول بفكرة الصراع و العداء الأبديين بين الإسلام و الغرب، و يزعمون أن هذا الرأي مرده إلى سوء تفاهم بينهما، و مرجعه إلى أن الغرب لا يفهم الإسلام على حقيقته، و لا يقف، حقيقة، على القيم السلمية و الإنسانية، التي يتضمنها، و هذه مسؤولية تقع على عاتق العرب أنفسهم، أي أن يشرحوا الإسلام “الحقيقي” و أن يبينوه لغيرهم، أي للمجتمعات الغربية، و كأن الغرب معني بتلك القيم، و أنه يرفض الإسلام ـ فقط ـ لخلوه منه.
إن العرب معنيون و ملزمون بالنظر إلى علاقة دينهم بالغرب، من جهتها الواقعية و الحقيقية، أي كما هي في الواقع،و ليس من زاوية ما يزعمه “العملاء الحضاريون” كما وصفهم” أنور عبد الملك” ممن يخيفهم أن يرفضهم الغرب. فهل السبب في هذا الحقد هو سوء الفهم القائم بينهما كما يروج عدد من ذوي النوايا الطيبة” من المثقفين و الباحثين؟
أما أن الغرب يسيء فهم الإسلام، فهذا مما لا شك فيه. و أما أن جل ما تكتبه الأقلام الغربية عن الإسلام ليس إلا مغالطات و أكاذيب و ضلالات، فهذا أيضا مما لاريب فيه. و لكن الأهم في الأمر أن الغرب لا يسيء فهم الإسلام، لأنه لم تُتح له الفرصة للتعرف عليه.
إن الغرب يتعمد أن يشوه الإسلام، و يتعمد أن يحط من قدر العرب، و يتعمد أن يضع عن القرآن “قدسيته” و هو يفعل ذلك قصدا، و إلا فإن مفكريه و علماءه بمكنتهم وحسب ما يتوفرون عليه من الأدوات و العدة”العلمية” أن يقفوا عليه و أن يقاربوه المقاربة”الموضوعية” التي تليق به و تليق بهم ك”علماء”. ولكن لماذا يتعمد الغرب ذلك؟ لماذا يتعمد تشويه الإسلام و الحط من عصابته و قومه؟
الجواب هنا سهل و بسيط، و لا يحتاج إلى العبارات الملتبسة و الغامضة التي لا تفيد شيئا و لا تقدم جديدا. إن الغرب لا يحتفل كثيرا بالعلم من حيث هو كذلك، أي لذاته، و إنما يحتفل به من حيث أهميته في توظيفه ـ أي الغرب ـ في بسط سيطرته و التمكين له في الهيمنة على الوطن العربي، و لذلك يستعمله من أجل ـ وفقط من أجل ـ أن يعرف نقط ومواطن الضعف عند الشعوب والدول التي يتربص بها و يسعى لاحتلالها، كما يقول “جرمان عياش”.
إن استثمار العلم و المعرفة في سبيل السيطرة و الإخضاع و الهيمنة و التحكم أمر لم يعد ممكنا الجدال حوله، و هذا الموضوع الذي بسط المفكر العربي” إدوارد سعيد” القول فيه، و بينه بشكل أكثر تفصيلا و شرحا في كتابه الشهير “الإستشراق”، و لذلك فإن الغرب، و عبر الجيوش من الباحثين و “العلماء” الذين توسل بهم في غزوه الدول العربية و التغلب عليها، لم يكن معنيا إلا بتبرير حملاته العدوانية و الاستعمارية و جعلها مشروعة و مقبولة.
وهذه الدعوى تجد سندها في كون الغرب لا يقبل أن يعترف بأي فضل للإسلام، و لا يقبل أن يقر بأنه أسس حضارة كانت باهرة و عظيمة، و أنه أنشا نظاما مختلفا كل الاختلاف عن نموذجه، حتى أن عددا من المفكرين العرب انتقد جمهورالمؤرخين الغربيين و نبه إلى انهم اسهبوا و بالغوا في الحديث عن منجزات الحضارات الإنسانية غير الإسلامية وسكتوا تماما عن الإسهامات الحضارية العربية و الإسلامية ولم يعيروها الاهتمام الذي تستحق، و حتى الذين شذوا عن القاعدة، فإنهم لا يحظون بالاحترام و التقدير اللازمين في بلادهم. كما لا حظ غير واحد من المهتمين.
أقول: إنه يتعمد ذلك حتى يقول أن الشعوب العربية بالخصوص مجرد شعوب همجية و هو إنما يحتلها حتى يدفع بها إلى الخروج من الهمجية و الانتقال إلى المدنية و الحضارة.
الخلاصة هنا أن الغرب ـ و عبر مفكريه و مثقفيه ـ يعمد إلى تشويه سمعة الإسلام و الحط من مكانة أهله، في سياق كسب تأييد من “الرأي العام” الغربي و العالمي، للإعداد لمحاربته والإجهاز عليه، و هذا الأمر ليست فيه أية مبالغة فقد نقل “محمد عابد الجابري” في كتابه ” المسألة الثقافية في الوطن العربي” عن جريدة أمريكية أن تيارا أوسع في الغرب على استعداد ليس فقط، لتأييد حرب اجتماعية باردة على الإسلام ولكن لتبني سياسات تشجع على ذلك، او كما قال. وهذا التيار الآخذ في الاتساع يتغذى على تروجه تلك الصحافة من أن الإسلام ضخم ومخيف و معاد للغرب، حسب المصدر نفسه.
إنه يقنع الرأي العام عنده ـ كما كان يفعل دائما ـ بأن الشعوب العربية متخلفة إلى أبعد الحدود و أن سيطرته عليها و إلغاءه لإرادتها أيضا، ليس إلا عملا نبيلا يسعى به، ومن خلاله، إلى النهوض بها إلى المدنية و الحضارة، و لأنه عالم حر و ذو رسالة حضارية كبرى، فإن عليه مسؤولية حيال هذه الشعوب.
ولبيان أن الغرب غير مهتم بالعلم من حيث هو، و إنما يهتم به فقط من جهة ما يفيده في مشروعه، نسوق نظرية تقسيم المغرب إلى “أرض المخزن” و “أرض السيبة” التي ذكرها “جرمان عياش” في كتابه “دراسات تاريخية” وقال عنها أنها “أُحدثت لأغراض سياسية معينة ” وليس لها من العلم إلا الدعوى، نسوقها هنا كنظرية، الغرض منها تصوير المغرب على أنه بلاد الفوضى و الاضطراب، وبالتالي فإن تدخله يُعتبر مشروعا ومبررا، لأن غايته هي القضاء على الفتن وضمان الاستقرار.
يبدو الغرب إذن واضحا في كونه لا يحترم العلم كعلم و إنما يتعامل معه فقط من الناحية الوظيفية و الإجرائية ، و أنه يسكت عن “العلم” و يتجاهله إذا لم يكن يخدم مصلحته، و يفتعل الأكاذيب و يزعم أنها نظريات إذا لم يجد في ذلك “العلم” ما يسنده.
إذا كان الغرب كذلك، و هو يتعمد المساس بالعرب وتشويه إسلامهم، و لا يعترف لهما بأية “قيمة” أو فضل، فإلى ما يرد ذلك؟ أي لماذا يتقصد الحط من الإسلام و النيل منه و من المنتسبين إليه؟
يقول “البرت حوراني” في كتابه “الإسلام في الفكر الغربي” ما معناه أن الإسلام، و منذ ظهوره، شكل تهديدا لأوروبا المسيحية، وكانت أوروبا تنظر إلى المسلمين، كأعداء حقيقيين على تخومها و حدودها، خاصة و أن الجيوش المسلمة التي كانت تقاتل تحت رايته ، قد احتلت جزءا مهما من أرضها، وكانت تحديا حقيقيا يؤرقها. إننا نفهم أن الغرب كان يحقد على الإسلام، للتهديد الذي كان يشكله في السابق، في الماضي،و لكن كيف نفهم بقاء هذا العداء و استمرار هذه الكراهية، و إصرار “المثقفين اللقطاء” بعبارة “الجابري” على إنكارها.
إن الجواب عن هذا السؤال كامن في طبيعة الإسلام ذاته، في طبيعته “الثورية” و “التحررية”، في قوته الهائلة و قدرته على التعبئة والتحشيد و التحريض. إنه قوة تعبئة كما يقول “سلطان أوغلو علي”، فالإسلام هو الذي يحول اليوم دون انهيار المجتمعات العربية، وهو الذي يبقيها ثابتة في محاولات الاقتلاع و التذويب في الحضارة الغربية، و هو الذي يمنح أتباعه القدرة على احتقار الحضارة الغربية رغم تفوقها، والتعالي عليها رغم استكبار أهلها.
إن الحقيقة الحقة اليوم، أن الإسلام ـ كإيديولوجيا تحرريةـ هو” الآخر” الحقيقي بالنسبة للغرب، أي العدو الذي لن يتوقف الغرب عن التربص به و التخطيط لمحاربته، ما دام يمنح أتباعه تلك الطاقة الروحية، وما دام يعتبره أهله حصنهم العقدي و الثقافي القوي و المكين، و الغرب، حينما يحارب الإسلام، لا ينطلق في حربه تلك، من شعار “الحق” و “الباطل” و “الإيمان” و “الكفر” كما تقول الحركة الإسلامية.
إن الغرب يحارب الإسلام لأنه يرى فيه خصما عنيدا و عدوا مهددا لمصالحه، والحق، بالنسبة للغرب، هو ما يخدمه و ليس كما يشرحه الدين، و إن الباطل ما كان عكس ذلك، وليس أيضا ما يراه الدين كذلك. وهكذا بالنسبة للإيمان و الكفر، إنه لا يستثمر في مثلهما إلا في معرض تعبئة الشارع و الضغط عليه.
وبعد، فإن هذا النوع من المقالات من اللون الذي قيل فيه الكثير حتى أصبح مستهلكا و بلغ درجة الابتذال، و لكن يبرر الخوض فيه مجددا أن نسبة من المسلمين بلغت من الضعة والهوان على نفسها، أنها متى أقدمت عواصم غربية معينة على استفزازهم، بممارسات فيها مصادرة لحقوقهم و مساس بكرامتهم، هبوا إلى جلد ذواتهم و سب مقدساتهم، وقالوا أن العيب فيهم والتقصير منهم، وقد آن لهم أن يسلموا بأن هذا الصراع هو القانون التاريخي الذي يحكم العلاقة بين الإسلام و الغرب ولن يتغير.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14162