إن العدالة الإعلامية من أسوأ مظاهر الحضارة الحديثة، إذ أصبح تدمير سمعة أي شخص شيئا يسيرا جدا. فالاستعمال الخاطئ للتكنولوجيا لاسيما الطريقة العشوائية لمستعملي محطات التواصل الاجتماعي. فمن خلال منشور حماسي مثلا يمكن أن يجد المرء نفسه في دائرة الاتهام أو الإدانة من دون أن يكون له يد في ذلك، فتنقلب الصورة وتصبح وسائل الإعلام، التي كانت بالأمس القريب وسائل تثقيف وترفيه، أدوات ترهيب وتدليس تقض مضجع أي واحد منا وتستطيع حتى القضاء عليه، فيجد الشخص المتهم نفسه في وضعية لا يحسد عليها.
إن حركة زر واحدة أو اثنتين لكفيلتين بالعبث بسمعة الناس وتمزيق شرفهم، فيصبح الشطط عدلا وإنصافا، والعدل ظلما وعدوانا. فترى القصاص الشعبوي يميل كل الميل ولا يجنح إلى الحكمة المتأنية ويتوارى وراء إقامة عدالة صماء لا تسمع إلا حفيف الأكاذيب والافتراءات. إزاء هذا يجد المتهم نفسه محاطا من كل جانب، تختطفه التهم، ويجرم ويدمر وجوده جزافا، فهو معلق على جدران محكمة تدينه وتسلبه أبسط حقوقه. إن المتهم اليوم لم يعد بريئا، حتى تثبت إدانته، بل هو مدان متى أشيرت إليه الأصابع أو لفظته وسائل الإعلام، فتتم محاكمته وإدانته، وينفر الكل منه ويفر، بل و أكثر من ذلك، فهو يعامل كجرثومة نيئة ومعدية ترمى في القمامة، ويتم القضاء عليه، فتبدد كل آماله في وجود أذان صاغية تشد من أزره وتدحض الحجج الواهية في حقه.
إن المعضلة الحقيقية في التوظيف، واللعبة الإعلامية الراهنة هي محاولة الاستئثار بالحقيقة واحتكارها، فالأحكام التي تطلقها لا تجانب الصواب. وغالبا ما نرى، نحن أيضا، أننا على حق وأن أحكامنا عادلة لا تبتعد عن الحقيقة قيد أنملة. فالحق بجانبنا دوما ونحن نعرف كل شيء. فلا يهم إن دمرنا وجود حياة أشخاص بأكملها. من يكترث؟ لا أحد! لقد أقمنا العدالة وقام القصاص بواجبه على أكمل وجه وانصرف مبتسما، يعلو محياه الرضا والسرور. لقد تحققت العدالة واستحق المتهم ما لحق به، يمكن للشعب أن ينام قرير العين. لم يعد بمقدور المتهم أن يقوم بشيء، إنه مكتوف الأيدي، معقود اللسان، لقد تم لجمه ولن تقوم له قائمة بعد الآن. لقد تم القضاء عليه واندحر وجوده منذ اللحظة التي أصبح اسمه كرة تدحرجها الأرجل وتتلقفها الألسن؛ فكل محاولاته للتفسير ستؤول إلى الفشل وإلى استحالة التصديق لأن الكل في اللعبة الإعلامية يزهد في الحقيقة ويمتنع عن تصديقها ويتمعن في صدها ويتمنع في وصلها، فالجميع يشرئب فقط لنشر الفضيحة وإن كانت غير صحيحة.
إن دوامة السقوط دوامة جهنمية تطحن بدون رحمة وتطلب المزيد، لا يشفع فيها أحد، الكل يتنمر ويزايد، فيصبح كلام المتهم أو صمته سيان، ويصير هذا الشك ظلا يلازمه أينما رحل وارتحل. إنه كالسم الذي ينخر أيامه الباقية.
تزهد العدالة الإعلامية في الحقيقة ويسيل لعابها يوما بعد يوم لمزيد من الربح، لأن الذي يهمها أن تسقط رؤوسا ثم تقطفها بأي ثمن، فهي لا تهتم بالحيادية ولا الموضوعية ولا تقبل أية مقاومة، بل كل ما يهمها نشر ثقافة الخوف ومن أجل ذلك تثير حولها زوبعة لتخشى، إنها وحش ضاري متعدد الرؤوس ينقض على ناصية الأخلاق يمزقها إربا إربا ثم يدوس عليها وعلى المشاعر الإنسانية ويبيدها عن بكرة أبيها.إنه الوجه المقيت والمميت للعدالة الإعلامية. والحقيقة أن لها وجها واحدا: الوجه الدموي.
ولعل الأخطر ما في هذا الوجه الدموي أنه لا يلتفت لا يمينا ولا شمالا ولا يرى إلا أبيضا أو أسودا، فالمنطقة الرمادية لا وجود لها. لذلك، فهو لا يهتم بطبيعة الإنسان المجبول على الخطأ، والذي تسكنه الهفوات وتمزقه التناقضات، بل تصدر أحكامها جملة واحدة غير آبهة للتفاصيل وفي تعطشها ولهثها للعدالة، تنسى جوهر الطبيعة البشرية المتأرجحة بين الخير والشر والتي يتعذر سبر أغوارها العميقة والمعقدة.
فاطمة تغيرديت
عن Slate.fr
المصدر : https://dinpresse.net/?p=6981