1 يوليو 2025 / 13:27

الدين والسياسة والمواطنة: طريقان مختلفان بين فرنسا والنرويج

عبد الله عتر. باحث من سوريا

المواطنة المتساوية. طريقان مختلفان بين فرنسا

في النرويج، تمنح الدولة استثناءات لمجموعات دينية تحصل بها على حقوق وتفضيلات خاصة غير متاحة للبقية:

تسمح بالحجاب للمسلمة في الجيش، والقلنسوة لليهودي والعمامة للسيخي، والإعفاء من الخدمة العسكرية لأسباب دينية.

كما تمنح المسيحية اللوثرية مكانة عليا حيث ينص الدستور عليها بوصفها: دين رسمي للدولة، أساس القيم في الدولة، كنيسة الدولة لوثرية، رئيس الدولة لوثري، نصف الوزراء على الأقل لوثريين.

تقف فرنسا على الضفة المقابلة.

فلا تمنح أي استثناء قانوني لأي أحد، لا حجاب ولا قلنسوة ولا مسيحي ولا مسلم. الجميع يتم صقلهم على آلة وطنية حادة تزيل كل اختلاف وتنوع وهوية، هم فقط مواطنون فرنسيون.

تمثل النرويج وفرنسا طريقتان مختلفان للمواطنة المتساوية: مواطنة متساوية حساسة للتنوع تعددية، ومواطنة متساوية معادية للتنوع أحادية.

كلا النموذجين يقرر حقوقاً أساسية متساوية بين الجميع تجعلهم مواطنين أعضاء في هذه الدولة بغض النظر عن دينهم وعرقهم.

نقطة الافتراق بين النموذجين بالضبط: فهل المواطنة المتساوية تتعارض مع منح استثناءات لمجموعة معينة دون بقية المجموعات في البلد؟ سواء كان الاستثناء لأقلية أو أكثرية؟

 

**********************

مواطنة متساوية معادية للتنوع 

القانون في فرنسا يعمل مثل ماكينة صارمة ترى الجميع كقطع جبنة متماثلة تماماً، وتقص كل الزوائد الدينية والثقافية لأي شخص.  يرى رقمًا في بطاقة الهوية، وجسدًا في بدلة عسكرية واحدة، مواطناً صالحاً نظيفاً من أي انتماء وثقافة. في الزواج، الأسرة، اللباس، توزيع الميراث، المناسبات. يتدخل القانون الفرنسي ليقص ذلك التنوع الديني والثقافي ويدفن تلك الزوائد الدينية والاجتماعية تحت الرمل حتى يحافظ على نقاء النسخ البشرية المتماثلة تماماً.

مواطنة متساوية مهووسة بالأحادية. مساواة بالساطور تقص فروع التنوع وتسويه بالأرض. المواطنة في النموذج الفرنسي عقد بين الدولة ومواطن أعزل يتم تجريده من ثقافته ودينه وانتماءاته.

لذلك فإن الدولة حين تضع القوانين لا ترى التنوع والتعددية أصلاً، لأنها مصممة على حجبه وكتمان ظهوره. لكن المواطنة في النموذج النرويجي عقد بين الدولة ومواطن كامل يحمل ثقافته ودينه وانتماءاته. لذلك فإن الدولة حين تضع القوانين تلتقط تنوع المواطنين واختلاف ثقافتهم وتيسر لها أن تظهر في الفضاء العام ومؤسسات الدولة والقوانين.

 

**********************

مواطنة متساوية حساسة للتنوع 

في النرويج لا يُطلب من المواطن أن يخلع هويته عند باب الدولة، بل ينساب الدين علناً في القوانين والسياسات كما هو في الحياة الفعلية خارج مؤسسات الدولة.

يسمح للمسلمة بارتداء الحجاب ضمن الزي العسكري، ويُقرّ لليهودي الحق في القلنسوة، وللمعترض دينيًا بالإعفاء من الخدمة العسكرية لمدة معينة.

وتمنح المسيحية اللوثرية استثناء دستورياً لا كهوية رمزية بل مؤسسة دستورية تجسدها الكنيسة الوطنية، وحالة تشريعية تترك أثرها على القوانين والسياسات العامة.

فكان الدستور ينص على في المواد (2، 4، 12):

“يبقى الدين الإنجيلي اللوثري هو الدين الرسمي للدولة”، “يجب أن يظل الملك دائمًا مؤمنًا بالديانة الإنجيلية اللوثرية ودعمها وحمايتها”، “نصف الوزراء على الأقل يجب أن يكونوا من المذهب اللوثري”، “الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي كنيسة الدولة”.

استقرت المواطنة في النرويج على هذا النظام 200 سنة تقريباً حتى عام 2012، وبهذا النظام حازت المراتب الأولى لمؤشرات الديمقراطية والحريات على سنوات طويلة.

فكانت الأولى في مؤشر الديمقراطية الدولي (إيكونوميست) مثلا في أعوام 2010 و2011، وكانت من أول دولتين في مؤشر (الحرية في العالم).

حازت على نقاط كاملة ضمن هذين المؤشرين فيما يتعلق بالحرية الدينية والمساواة والحكومة الديمقراطية. حين تم تعديل الدستور 2012 تم الانتقال من “دين الدولة” إلى “قيم الدولة”: (يجب أن يبقى أساس القيم تراثنا المسيحي والإنساني)، وأُلغي شرط الدين للوزراء، وبقي شرط دين رئيس الدولة، وأصبحت الكنيسة اللوثرية الكنيسة الوطنية للنرويج.

المنطق السياسي والقانوني الذي تأسس عليه التعديل ذكره محضر اجتماع البرلمان: “من المهم ألا نفقد مكانتنا المسيحية كأمة”، وهذا التعديل الدستوري “لا يعني أننا ننزع الطابع المسيحي عن النرويج”، لأن “المسيحية تشكل نظرتنا للإنسانية وقيمنا وقوانيننا وتاريخنا وثقافتنا. واتفقت الأحزاب أخيرا على أن المسيحية لابد أن تظل جزءا مهما من دستور الشعب النرويجي. ويجب أن يظل لها موقع مركزي”

**********************

مواطنة النرويج ترى أن في الحديقة وروداً مختلفة اللون والرائحة، يجب سقيها جميعاً. تأتي مواطنة فرنسا إلى تلك الحديقة وتحول الورد المختلف إلى عشب أخضر متماثل تماماً.

المواطنة في فرنسا لا تمنعك من الحقوق، لكن تشترط عليك أن تمارسها في الظل لا في العلن. وكأن المواطنة هنا لا تُمنح لمن أنت. بل لما يجب أن تكون عليه بعد أن تتخلى عن نفسك.

المواطنة التعددية تُمنح لمن أنت. وتعترف القوانين بما أنت عليه وتعطي كامل الحقوق والاستثناءات المنصفة المعقولة.

الحجاب في الجيش الفرنسي تهديد للحياد، لكنه في النرويج امتداد للحرية والتنوع. دين الدولة في فرنسا تهديد للحياد، لكنه في النرويج تعبير عن الحياد المتنوع. وجود كنيسة وطنية لوثرية انتهاك للمساواة، لكنه في النرويج اعتراف بهوية البلاد وأغلبية السكان.

حياد الدولة أن لا تتدخل الدولة في أديان الناس وثقافة البلد لتكون على نمط معين. بل تعمل كالمرآة تشف عما هو قائم قدر الإمكان. ويكون ذلك الحياد عبر الاعتراف بالهويات وتمكينها من الحضور بطريقة منصفة.

النرويج تسمح بالحجاب والقلنسوة والوعظ الديني في الجيش، وتعطي مكانة للمسيحية اللوثرية ذات تأثير دستوري وقانوني. لكن المواطنة الأحادية في فرنسا تفهم الحياد بوصفه تدخل وحذف جماعي للعلامات التي تعكس التنوع.

هكذا تتدخل الدولة لإزالة للهويات وخنقها صوتها ومحاصرتها في زاوية المجال الخاص: تتعامل فرنسا مع التنوع كتهديد لحياد الدولة يجب تحجيمه ومحاصرته، وتتعامل النرويج مع التنوع كمصدر للمشروعية الوطنية يجب دعمه وإظهاره.