أصدر الشيخ “أحمد الريسوني”، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فتوى بخصوص المبادرة الوطنية لدعم المقاول الذاتي، الذي بموجبها تقوم البنوك بإعطاء قرض لا تتجاوز فيه نسبة الفائدة 2% فيما يخص المدن و1. 75فيما يخص القرى، تكون الدولة ضامنة لهذه القروض، وقد أفتى الشيخ “الريسوني” بجواز هذا القرض باعتباره قرضا حسنا غير ربحي.
وقد طلب مني بعض الأفاضل ممن يحسن الظن بي أن أعطي تعليقا ورأيا حول هذه الفتيا فكان جوابي كما يلي:
1 ـ لايسعنا في هذا المقام إلا أن نشكر الدولة المغربية على هذه المبادرة الاقتصادية التي يرجى منها أن تنعش الاقتصاد المغربي، ونتطلع إلى مبادرات أخرى تكون في صالح المواطن المغربي لرفع الهشاشة الاقتصادية ومحاربة البطالة وتغوّل الشركات الكبرى.
2 ـ فتيا الريسوني مبنية على جملة من القواعد الشرعية التي ينبغي أن يراعيها الفقيه في الفتاوى الشرعية عامة، والفتاوى النوازلية خاصة، (وهنا يكمن الفرق بين الفقيه المجتهد والفقيه المقلد.. فالأول له القدرة على تنزيل القواعد الشرعية حسب الأحوال والمصالح المرعية، والثاني غالبا ما يكون فقهه حبيس التنظير والحكاية المجردة للقواعد يتم فيها تغليب القول بالاحتياط وسد الذرائع خصوصا في الأمور المشكلة التي تتجاذبها سهام الحل والتحريم).
3 ـ يتفق علماء المسلمين قاطبة على تحريم الربا ويختلفون في بعض المعاملات التي تتأرجح وتدور في فلك الربا تارة، وفي فلك البيع تارة أخرى، ذلك أن الله تعالى قال: (وأحل الله البيع وحرم الربا).
4 ـ فتيا “الريسوني” صادرة من رجل فقيه عالم مجتهد يخطئ ويصيب، ويمكن قول مثل ذلك عن الدكتور “علي الطنطاوي” رحمه الله في فتاويه المعروفة في هذا الموضوع والتي أثارت جدلا بين الفقهاء (راجع فتاوى أحمد مصطفى الزرقا).
5 ـ المؤسسات البنكية المعاصرة أو المؤسسات الربوية كما يسميها البعض لا تقوم على مبدإ القرض الحسن.. ذلك أن القرض في الإسلام مبني على الإرفاق والإحسان، ولذلك هو في عرف الفقهاء عقد معاوضة يقصد به الإرفاق على الناس.
لذلك كان ربا النسيئة أشد أنواع الربا حرمة، لأنه مبني على الظلم وأكل أموال الناس بالباطل واستغلال ضعف الناس وحاجتهم، وهو ما يؤدي إلى الطبقية في المجتمع وتكريس الفوارق الاجتماعية.. فتجد الغنى الفاحش والفقر المذقع، وشريعة الله تريد أن لا يكون المال دولة بين الأغنياء فقط.
وقد اتفقت الأديان السماوية على تحريم الربا، وأنه سبب في خراب المجتمعات وهلاكها.
6 – في هذه المبادرة الوطنية تقوم الدولة بضمان البنوك في حالة الخسارة المحتملة، فاحتمال الخسارة والربح ظنّي في غالب المعاملات التجارية.. وبالرغم من وجود الدراسات الاقتصادية التي تبنى عليها هذه القروض والتي يكون على أساسها تقديم القروض، فاحتمال الخسارة وارد.
7 – هذه القروض ليست نفعية أو ربحية، وإنما هي قروض حسنة يقصد بها الإرفاق على المواطنين في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية لدى فئة من الناس.
والحكم يدور مع علته، وجودا وعدما، فكما أن علة الربا هي الزيادة في المال بغير حق مشروع، والمال لا بنبغي أن يأتي بمال أكثر منه.. فالعلة هاهنا منتفية في هذه القروض رغم وجود نسبة فائدة تتراوح بين 1.75 و2٪.
ولأن هذه النسبة لن تغطي إلا مصاريف اللجنة المالية المكلفة بهذا المشروع، فهذا يدل على أنها من قبيل القرض الحسن الجائز.
وأنا أعتقد من خلال بعض الدراسات الاقتصادية المنشورة أنه يمكن إعطاء قروض بنسبة 0٪ من غير أن يسبب ذلك ارتفاعا في التضخم أو أي مشكلة اقتصادية، ولكن من باب أن ما لا يدرك كله لا يترك جله يمكن القول بجواز هذه النسبة.
ولعل قائلا يقول ليس هناك خبر قطعي يفيد أن نسبة 2% هي لتغطية المصاريف المتعلقة بهذه الخدمة، فنقول أثبت لنا عكس ذلك ونحن نعتبره… فقد ثبت عندنا أنها متعلقة بالخدمات سالفة الذكر.
8 – يقول البعض من الناس إن هذا القول يشبه قول من يجيز شرب المشروبات التي يكون فيها الكحول بنسبة 1% إلى 2% مع أن الأمر واضح في أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، فكيف تضعفون هذا القول وتجيزونه في الأموال..؟؟
والجواب عن هذا يحتمل بسطا ليس هذا مقامه.
9 – يشير “الريسوني” في فتواه إلى أن هذا القرض أقل إثما من غيره في حال قولنا إن كل فائدة حرام، فلا يمكن بحال مقارنة قرض بـ 2% مع قرض بـ 24%.
فالأصل عند “الريسوني” حرمة الفوائد البنكية (الفائدة تعني في اللغة الزيادة).
10 – قرر الفقهاء في القواعد الفقهية أن الحاجة إذا عمّت نزلت منزلة الضرورات.. وضربوا لذلك أمثلة معاصرة مثل السيارة، فإذا احتاج الناس إلى السيارة احتياجا شديدا، ولم يكن لهم بد منها إلا بالاقتراض الربوي.. كان ذلك سببا كافيا في جواز اقتراف الربا ضرورة لأجل الحصول عليها.. فما كان حاجة (السيارة) أصبح ضرورة بعد أن عمت، وقس على ذلك مطلق الحاجات التي أبيحت لكمال الانتفاع.
وأحسن من عرف الحاجة الشرعية هو شيخ الاسلام “بن تيمية” حين قال في القواعد النورانية (الحاجة ما أبيح لكمال الانتفاع).
11 – كان بودي لو أن الأستاذ “الريسوني” تعرّض لمسألة جريان الربا في الأوراق النقدية.. وهل هي ربا أم لا، بل إن القائلين بأنها ربا لا يجعلونها ولا يعتبرونها من قبيل الربا المحض، كما أشار إلى ذلك العلامة “بن بيه” المالكي و”بن بدران” الحنبلي في فتاويه، والإمام “مالك” من قبل في مسألة الفلوس..
وينبغي الإشارة إلى أن فقهاء الأزهر كان لهم رأي في هذه المسألة رغم مرجوحيته عندي وعند “الريسوني” و”أحمد الزرقا” و”يوسف القرضاوي”.. لكن ينبغي احترام أقوالهم واعتبارها في الخلاف الفقهي.
12 – هل يجب على الفقيه أن يطوع نصوص الشرع لتتوافق مع الحرام..؟؟
وهذا الأمر كثيرا ما يُتهّم به الفقهاء المصلحون حين يقدمون فتيا تتناسب مع مصالح الناس من غير تجاوز لنصوص الشرع في نظرهم.
13 – ينبغي للمفتي أن يستحضر في ذهنه أن دائرة الحلال أوسع من دائرة الحرام. وأن تكون من أنصار حزب سهل بن ميسر خير لك من أن تتوغل في حزب صعب بن مشدد. فاليسر ما كان في أمر إلا زانه وما انتزع من شيء إلا شانه.
14 – ينبغي أن تفعل في هذا الخصوص وتدرس نظرية المصلحة عند “الطوفي”، القائمة على إمكانية تجاوز المصلحة للنص الظني الدلالة في باب المعاملات دون غيرها.
15 – تقرر في الشريعة الإسلامية وقواعدها أنه كما يشرع سد ذرائع الفساد كذلك يشرع فتح ذرائع المصالح المعتبرة.
16 – في غياب وجود حلول بديلة، فإن الفقهاء يجب أن يتدخلوا بالحلول العملية الموافق للنصوص الشرعية والقواعد المرعية.. ولأجل ذلك، قرروا وعلى رأسهم سيد الفقهاء الافتراضيين- الامام أبو المعالي الجويني- أنه إذا جرت معاملات الناس على اقتراف شيء من الحرام جاز لهم اقترافه ومعاقرته، حتى لا تتعطل مصالح الناس وتتأذى.
17 – ينبغي ترسيخ سماحة الشريعة ويسرها في أبناء الأمة وأن جانب المصلحة معتبر فيها وذو أهمية كبرى في التشريع.
والمصلحة تعني المنفعة والانتفاع من غير ضرر أو ظلم.
سماحة الشريعة تعني أن المسلم يجب عليه إتقان فقه الحياة وصناعة إعمار الأرض ومابه يصلح الإنسان.
18 – ينبغي استشعار الفقيه المعاصر لجانب التطور والتغير في حياة الناس، واستحضار روح الفقه الإسلامي المرنة الصالحة لكل زمان ومكان، فرغم إيماننا بأصالة الاقتصاد الإسلامي، فهذا لا يعني طرح وإهمال الاقتصاد المعاصر جملة وتفصيلا، وكما نادى بعض الفقهاء بضرورة تفقيه القوانين عوض تقنين الفقه (الشيخ سالم ولد عدود الموريتاني)، فأنا أنادي بتفقيه الاقتصاد العالمي في ضوء الشريعة الإسلامية الغراء.
19- لقد أفتى فيما مضى الشيخ “أحمد مصطفى الزرقا” بجواز الانتفاع بعوائد الأموال المودعة في البنوك، ولكن ليس باعتبار جواز الفائدة عنده، وإنما باعتبار أن وضع الأموال في البنوك ضرورة، فليس يعقل أن يضع المسلم ماله في بيته معرضا إياه للسرقة والضياع، وقد أفتى بجواز الانتفاع بذلك العائد الربوي وصرفه في مصالح الناس، كما أفتى رحمه الله بجواز التأمين مطلقا رغم ما يوجد فيه من شبهتي الربا والغرر وغير ذلك مما يراه الفقهاء المحرمون للتأمين. (راجع فتاواه ورسالة له في جواز التأمين).
وقد يقول القائل إن الزمن مؤثر في القرض، فقيمة المليون هذا العام تختلف عن قيمته العام المقبل، فيجب الإقراض بالزيادة. والجواب عن ذلك أن يقال إن الأمر نسبي لأنه يوجد من الأموال ما تزيد قيمتها عبر السنين ومنها ما تنقص..(وهو عين الربا) فالكلام عن حق الزمن غير متحقق، وإنما هو متحقق في بيوع الأجل، كما قرر ذلك شيخ الإسلام في القواعد النورانية (والزمن له حقه من الزيادة) وهو من أعظم الكتب في القواعد الفقهية التي لا ينبغي للفقيه المعاصر تجاوزها.
وكذلك رسالة الإمام “الشوكاني” (شفاء العلل في حكم الزيادة في الثمن لأجل الاجل).
وفي حالة المبادرة الوطنية، فإن تقديم قرض بنسبة يسيرة شابه عقد المضاربة في وجه من الأوجه، فليس هو بالقرض الربوي الخالص ولا هو بعقد مضاربة.. هو وسط بينهما وأرجو أن يكون القول فيه اقترض ولا حرج.
ولا يفوتني في ختام هذا المقال إلا التنويه بفتوى “الريسوني” والتنويه بمبادرة الدولة، سائلا الله تعالى مزيدا من التألق الاقتصادي لبلدنا الغالي.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=6937
Naimaمنذ 5 سنوات
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.