ذ. محمد جناي
مع نهاية الستينات وبداية السبعينات ظهرت نظرية رأس المال البشري، حيث يعتبر الاقتصادي جاكوب (Jacob) من الأوائل الذين استخدموها، لكن البداية الحقيقية لظهور هذه النظرية الجديدة اي “رأس المال البشري” كانت من خلال ما نشره الاقتصادي شولتز (Schultz) في مقاله الشهير بعنوان: “الاستثمار في رأس المال البشري”، والذي تم نشره في سنة 1961، حيث جعل من نظرية “رأس المال البشري” المحور الحاكم في رأس المال الفكري باعتباره المحرك الرئيسي للإبداع، وباعتباره المورد المحدد للقيم غير الملموسة في عمر المعرفة، والذي يتحدد في القوى العاملة، المؤهلة، التي تمتلك التفكير والقدرة والابتكار والتجديد، من خلال المعرفة الضمنية الكامنة في فكر واذهان القوى العاملة.
يرى إيكوفا أن إدارة رأس المال البشري هي عبارة عن إستراتيجية مخططة لإدارة أثمن ما تمتلكه المنظمات، وهي القوى العاملة، من أجل تحقيق أهداف المنظمة، وتقييم فعاليتها، ونجد من التعريفات الواسعة الانتشار أيضا لمصطلح إدارة رأس المال البشري، والذي تتبناه منظمة اليونيسيف، أنه أسلوب لإدارة المخزون الذي تمتلكه الدولة من السكان الأصحاء المتعلمين الأكفاء والمنتجين، والذي يعد عاملا رئيسا في تقدير إمكانياتها، من حيث، النمو الاقتصادي وتعزيز التنمية البشرية، ومما تقدم يمكن القول بأن مفهوم إدارة رأس المال البشري هو مفهوم ديناميكي متعدد الأبعاد، يتضمن علاقات ترابطية قوية، مع العديد من المفاهيم الأخرى، كرأس المال المعرفي، ورأس المال الاجتماعي والتنمية البشرية ، إلا أنه يختلف عنهم لكونه يركز على المكون البشري ، باعتباره محددا رئيسا للنمو الاقتصادي.
لهذا لم تعد عملية خلق الثروة تعتمد على الجهد العضلي، بل على الطاقات الفكرية والذهنية، لا سيما في ظل عصر المعلوماتية، إذ إن التوسع في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات وصناعتها، تتطلب المزيد من الاهتمام المعرفي، وأصبح الإبداع في هذا الجانب هو سمة العصر الحالي ، وبمعنى آخر فإن رأس المال الحقيقي الذي تمتلكه أي مؤسسة هو رأس مالها الفكري والمتمثل في المورد البشري وهو الذي يمثل القيمة السوقية الحقيقية لها ومن الواضح أن الاهتمام بخطوات تحسين إدارة رأس المال البشري لهذه المنظمات المعاصرة ، ترتبط بفعاليتها،لهذا سعت العديد من دول العالم ومنهم المغرب إلى الاهتمام بالتعليم وتطوير مؤسساته لما له من تأثير كبير في تحديد مكانتها الدولية ، وموقعها من التنافس الاقتصادي العالمي ، وتجسد هذا الاهتمام في كونه جاء في صدارة السياسات التعليمية لدى تلك الدول.
ومن هذا المنطلق؛ فإن الاستثمار في رأس المال البشري وإدارته بشكل فعال، يفوق في نتائجه الاستثمار في الموارد المادية، وبالتالي أصبحت إدارة رأس المال البشري متصدرة العناصر الإنتاجية في عمليات التنمية وفي فاعلية عناصر الإنتاج المادية، التي لا تكون لها هذه الفاعلية دون العنصر البشري، ومن ثم يمكن القول إن الثورة الحقيقية لتلك المؤسسات تتمثل بصفة أساسية في رأس مالها البشري، من قيادات،وأعضاء هيئة التدريس، والإداريين والعاملين، فالمؤسسات تقاس بحجم ما لديها من خبراء وعلماء وموظفين وإداريين قادرين على تطوير المؤسسة وإنجاح الأعمال التي تناط بهم بكل دقة ومهارة.
ويصنف لاندفول وجونسون Lundvall &Jonhnson المعرفة المرتبطة برأس المال البشري إلى أربعة مكونات أساسية وهي:
الأولى: معرفة ماذا (Savoir Quoi)، وتعبر عن معرفة الأفعال.
الثانية: معرفة لماذا (Savoir Pour Quoi)، وتعبر عن معرفة الأسس والقوانين التي تحكم وتسير الطبيعة والأفراد والمجتمعات.
الثالثة: معرفة كيف (Savoir Comment)، وتعبر عن معرفة طريقة أداء الأعمال، وعن كيفية استخدام المؤهلات والاستعدادات.
الأخيرة: معرفة من (Savoir Qui)، وتعبر عن القدرة على الاتصال والتعامل مع الآخرين.
والذي يهمنا في هذه المقالة هو المكون الرابع أي التواصل الإنساني وعلاقته بتنمية وتعزيز رأس المال البشري حيث شهد ميدان التواصل الإنساني طفرة في التقدم من حيث التنظيم والبحث حتى أصبح هناك عددا من التخصصات العلمية في بعض جوانب التواصل والتفاعل الإنساني، فالعلوم الاجتماعية تختص وتهتم بالتواصل البشري، فعلماء الأنثروبولوجيا يعرفون الثقافة على أنها تواصل، وعلماء علم النفس الاجتماعي يحددون العلاقات بين نشاط الفرد والجماعة على أنها عملية اتصالية، وعلماء اللغة يصفون بحوثهم على أنها جانب من علم التواصل وهكذا، ونظرا لتعقد المجتمعات المعاصرة فقد أصبح ميدان اللغة والتواصل من الأهمية بما كان في تحقيق التقدم في الآداب والعلوم والفنون وأساسي للنجاح الأكاديمي والمهني.
فالتواصل الإنساني إذن، ركن مهم من أركان الحياة البشرية منذ أن وجد الإنسان فوق الأرض، وإذا كان الإنسان القديم قد تعامل بالإشارات وتعابير الوجه والتمتمات الغامضة، فإن التواصل الإنساني المعاصر أخذ يتطور بشكل مطرد مع الزمن، وهو اليوم علم من العلوم الإنسانية المهمة، مما يجعل الضرورة ماسة للتعمق في دراساته والتعريف والتثقيف بها.
لأن الإنسان في هذا المكان أو ذاك، كان ولا يزال يتواصل مع الآخرين بشكل فطري، مما لا يمكنه من الإيصال بالشكل والقدر اللذين يرومهما من التعبير، ومن هنا تأتي أهمية فهم مبادئ التواصل وأشكاله وطرائقه وأهدافه ومشكلاته على نحو يزيد من مهاراته التواصلية بما يسهل له إشباع حاجاته وتحقيق النجاح في حياته.
وإذا كان التواصل الجيد والسليم يمكن أن يؤدي إلى تقوية الروابط الاجتماعية، وإثراء العلاقات ومعرفة الذات وحسن تقديرها وتعميق الحس الديمقراطي والنجاح في الحياة وتحسين الصحة النفسية والجسمية وجعل الحياة أكثر متعة وجمالا، إذا كان التواصل كذلك، فإنه من جانب آخر يتطلب مستلزمات مهمة قد يوحي ذكرها مجردة بأنها محض بديهيات، ولكن التأمل فيها والتوقف عند بعض مفاصلها، يكشف شيئا من أبعادها التربوية والإنسانية في تعزيز الرأس المال البشري.
وختاما: لهذه الأسباب مجتمعة، أطلق الفلاسفة على الإنسان ألقابا متنوعة وفقا للخصائص التي تميزه عن الكائنات الأخرى، فقالوا: إنه كائن عاقل، ناطق، رمزي، وقالوا أيضا إنه كائن اجتماعي لا يملك بحكم طبيعتها إلا أن يعيش في جماعات سواء أكانت هذه الجماعة أسرة أم قبيلة أم قرية أم مدينة، أم غير ذلك من ضروب التشكلات الاجتماعية المختلفة، ولعلنا نضيف سمة أخرى هي أنه كائن تواصلي، وهي سمة مركبة من سمات أخرى كالنطق والرمزية والدافعية والاجتماعية، هذه الصفة التواصلية منسوجة في حياة الإنسان مكانا وزمانا وفعالية، إذ يندر أن نجد الإنسان في مكان أو زمان لا يتواصل فيهما، كما يصعب أن نجد فعالية لا يمارس فيها التواصل أو يستثار، فالتواصل الإنساني عملية معلوماتية معقدة، يتم التعبير من خلالها – بين مرسل ومستقبل – عن المشاعر والأفكار والوقائع ، بواسطة رسالة ذات أشكال مختلفة ، عبر قنوات مختلفة ، بهدف تحقيق وظائف متنوعة
ــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1):أنت وأنا : مقدمة في مهارات التواصل الإنساني ، تأليف د. محمد بلال الحيوسي، الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج ، الطبعة الثانية 2014.
(2): سيكولوجية الاتصال الإنساني ومهاراته، تأليف سناء محمد سليمان، الناشر عالم الكتب القاهرة ،الطبعة الأولى 2014.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=17430
